ريمان برس - متابعات -
إن طبيعة تركيبة النظام اليمني القبلية والطائفية فاقمت هشاشة وغياب التوافق حول المسلمات العامة, وتفاوت مستويات المشاركة السياسية قد جعل اليمن ساحة مفتوحة للصراعات الإقليمية والدولية. والحديث عن الأحزاب السياسية في اليمن يجعلنا نعرج على ما أحاط بها من عوامل زمنية وتحولات تاريخية متفاوتة.
ولست بحاجة للقول: إن هذه الأحزاب أصبحت اليوم متصدعة، وتقف على أرضية رخوة وبنيان مرتعش. لم تستطع هذه الأحزاب منذ إعلان التعددية على أقل تقدير أن تغني تنوعها, بل كان سوء الممارسة والفهم والنية بتوسل العمل السياسي مادة خلاقة لقبيلة هجومية ومناطقية دفاعية تتفجر حساسية مكبوتة كلما لاح خلاف على السلطة.
والأحزاب السياسية اليمنية كانت تتأرجح في شكل تجاذبي بين نفوذ سلطة القبيلة ونفوذ سلطة الدولة. وبما أن ساعد القبيلة كان هو الأقوى كانت هي تستأثر بالمغانم على حساب تقلص ظل الدولة.
وإذا ما عدنا قليلاً إلى الوراء فسنجد أن القبيلة هي التي أسقطت عبدالرحمن الإرياني عن كرسي الرئاسة ليحل محله إبراهيم الحمدي, وقد قال أحد رؤساء القبائل الكبرى: (قلنا للإرياني كن فكان, وقلنا للحمدي زُلْ فزال).
أما في زمن الفوضى التي اجتاحت بعض الأقطار العربية ومنها اليمن فقد تعطلت السلطة السياسية، وذهب علي عبدالله صالح قبل إنهاء فترته الرئاسية لتصبح الرئاسة رمزاً دستورياً شكلياً، والسلطة التشريعية فقدت صلاحية التشريع إلا في مجال السيطرة على الوظيفة العامة، أما الحكومة فهي تنزع إلى تشجيع المليشيات التي أرخت ظلاماً سوياً مسعوراً في الحصبة وتعز وغيرها من المدن.
ولا أبالغ إذا قلت: إن الطامة الكبرى كانت في عهد حكومة الوفاق؛ حين سقطت كل معالم الدولة بمفهومها الدستوري والقانوني والوضعي, وبكل مؤسساتها: السياسية والأمنية والقضائية, فإذا الوظيفة العامة تفصل على قياس من يدينون - لمن يزعمون أنهم حماة الثورة - بالولاء, وعلى حساب الإرادة الشعبية المنتهكة ومستوى الكفاءة والاستحقاق.
لقد نشأت الأحزاب السياسية في اليمن كأحزاب مستأجرة, تهبط على الشعب من فوق وتحمل هوية سياسية تعارض الهوية الوطنية، يكفي أن تكون إيران أو بغداد ودمشق في عز قوتهما التوجه والهوى, فيما أقصيت كل القوى الوطنية الحية الفاعلة, وكل التوجهات المغايرة للظل الخارجي الطاغي على الأرض اليمنية.
لقد نتج عن هذا الواقع وعن التطورات المغلفة بالعنف أن فرزت هذه القوى نفسها في جبهتين: جبهة تتبع إيران، انضمت إليها بعض القوى اليسارية, وجبهة أخرى مرتبطة بدول الخليج، وانضم إليها بعض القوميين.
وفي إطار هذه التجاذبات غرق معها الوطن في متاهات الامتدادات الخارجية, بفعل تكافؤ القوى الداعمة وغريزة السيطرة.
استكملت مآرب القبيلة في انتشار المليشيات القبلية والدينية في تعطيل النمو الطبيعي للشباب واستبعاد النخبة السياسية المؤهلة وتأمين استمرارية نفوذ القبيلة ببندقية المليشيات, فإذا الجيل الخلف من أبناء المشايخ هو جيل الحرب المتخلف, بكل ما تلوثت به نفسه من وشم البارود وما تفتن به العقل الفتي من الغوغائية واللامبالاة في حق هذا الشعب.
والواقع الذي انجلى عليه الأمر اليوم هو أن هذه الأحزاب السياسية تعددت فيها الانشقاقات, فتراخت معها السلطة الحاكمة في السلطتين التشريعية والتنفيذية في الدولة, وارتدت السلطة حكراً على بضعة من المتربعين على كاهل الشعب؛ فهذا أحد حماة الثورة يوجه رسالة بتاريخ 25/11/2012 لوزير الخارجية باستيعاب أربعين شخصاً في الخارجية، وكأنه الحاكم الفعلي، مناقضاً لنفسه حينما زعم أنه يريد دولة مدنية, ومثل هذه الممارسات تجافي الدولة المدنية وينتصر للعشوائية والفوضى. ونتيجة لهذه الممارسات المخيفة غدت أي قيامة موعدة مرتهنة بما يمارسه هؤلاء من سيطرة على مؤسسات الدولة.
وإن شئت أن أكون أكثر دقة ووضوحاً أقول: إنه لا يوجد سبيل إلى تخطي الأفكار المهددة لمستقبل اليمن سوى تشكيل جماعة أنصار الدولة المدنية، نقدم مشروعاً عصرياً يقلص السيطرة القبلية والمليشيوية والخارجية وإفساح المجال أمام قيام جيل عصري جديد.
ومن الحتمي الملح في هذا المجال استعادة بوادر التحول التي كادت تشهدها البلاد قبل الأزمة، والعمل على توسيع قاعدة انخراط جيل وطني، والعمل على تنمية حسه الوطني وصهر شخصيته المترنحة وصقل ثقافته الجامحة، وستكون مهمة أنصار الدولة المدنية هي تأمين الاندماج المجتمعي للجيل الجديد وتجاوز أولئك الذين يخالجهم شعور مبهم بالعبث واستعداد مسبق للفوضى، ولا يبرئ التاريخ المثقفين من إحجامهم عن الدور الذي يمكنهم من الحلول محل التجمعات القبلية والمذهبية؛ لإنقاذ الوطن من استعمار المذاهب وإنقاذ الدين من أن يتحول إلى معابر إلى الوظيفة والسلطة.
ومادامت الأزمة قد ولدت الطائفية وطورت مفاعيلها الخطيرة التي أصبحت تنذر بما هو عاصف في عملية التصدير والاستيراد فلا مجال أن ننشد الخلاص على يد من شاخ حسهم على نزعة التعصب، بل يعلق الأمل على حركة الشباب الطالع المتخلص من ترسبات السلف والقادر على إحداث تطور جذري في الحياة اليمنية.
براقش نت |