ريمان برس - خاص -
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ( ومن نعمره ننكسه بالخلق لكي لا يعلم بعد علمه شيئا ) صدق الله العظيم ..
هذه الآية لا اعتقد إنها مقصورة على مخلوقات الله من البشر ولكنها تنطبق أيضا على الأمكنة والحضارات وعلى الجغرافية.. إذ أن ثمة مقولة أخرى مفادها ( أن كل شيء يبلغ ذروته يبدا بالانحدار ) والشمس إذا ما وصلت لكبد السماء تكون في ذروتها ثم تبدأ بالانحدار والافول ؛ حقائق يمكن استنتاجها بصورة مباشرة ؛ إذا ما توقفنا أمام المشهدين ( العدني والتعزي ) إذ شكلت عدن بداية عنوان التحضر والتقدم الاجتماعي والتسامح والتعايش ؛ ثم شكلت ( تعز ) الرديف الطبيعي لها وشهدت المدينتين تحولات حضارية واجتماعية وثقافية وكانتا لفترة زمنية مدينتي التحولات وعنوان التقدم الوطني والتنمية الوطنية بمختلف مشاربها وجوانبها الحضارية ؛ وشكلت الروابط الاجتماعية والثقافية والجغرافية بين المدينتين ( عدن وتعز ) حالة تكامل وتلاحم حد الاندماج وكانت ( تعز ) لفترة طويلة أقرب لعدن منها إلى ( صنعاء ) حتى في زمان الاستعمار والإمامة والتشطير ؛ وخلال مرحلة النضال الوطني ضد الاستعمار البريطاني كانت تعز الحاضرة والفاعلة برموزها ورجالها ومثقفيها ونخبها الاجتماعية ؛ كما كانت ( عدن ) بدورها وكل المحافظات الجنوبية حاضرتان في النضال الوطني ضد النظام الإمامي كما كانت عدن ملاذا للفعاليات الوطنية في شمال الوطن ؛ ظلت هذه العلاقة النموذجية بين المدينتين قائمة ومتماسكة رغم الخلافات والصراعات داخل الشطر الجنوبي ورغم الصراعات الشمالية الجنوبية والتي كانت تصل لحد المواجهات العسكرية بين ( الشطرين ) ليتبدل الحال بمعدل ( 180 درجة ) مع قيام دولة الوحدة اليمنية عام 1990م لتبدأ رحلة ( الأركسة ) والانتكاسة الحضارية تنحدر بصورة تدريجية حتى وصلت العلاقة بين المدينتين لما يمكن وصفه ب ( الحضيض ) ؟
ولم يتوقف الأمر عند علاقة المدينتين ببعضها؛ بل بلغ (الانحطاط) ذروته داخل كل مدينة وبين مكوناتها المجتمعية ونسيجها المجتمعي حتى غدت ( عدن ) ليست عدن التي نعرفها ولا ( تعز ) هي تعز التي ننتمي إليها وترعرعنا في ربوعها ..فماذا جرى ؟ وأي قدرة شيطانية حولت المدينتين من عنوان التقدم والتحضر الاجتماعي والثقافي إلى بؤر للتنافر والتمزق ونكران وتنكر لكل القيم الحضارية؛ وتنتفي منهما كل قيم المحبة والتعايش ؛ أن لم تكون قد انطبق عليهما قول الله تعالى الذي به استهلينا هذه التناولة وهي أن المدينتين بلغتا ذروة تطورهما ثم بدأت رحلة الانتكاسة التي وصفها الله وأيضا والتي قطعا تنطبق على الانسان والمكان والمجتمعات والجغرافية لنجد أنفسنا اليوم نعيش مرحلة الأركسة والارتداد السلوكي بكل( صور القبح ) التي نشاهدها اليوم في علاقة المدينتين ببعضهما وفي علاقة كل مدينة ببعضها ؟؟
إذ نجد انفسنا نواجه مشهد سلوكي غريب وغير مسبوق وغير متوقع تعيشه المدينتين على الصعيدين الذاتي الداخلي داخل كل مدينة وعلى صعيد علاقة المدينتين ببعضهما ..؟
سلوك يصعب تفسيره إلا من خلال قوله تعالى ( ومن نعمره ننكسه بالخلق لكي لا يعلم بعد علمه شيئا ) ؟؟
وأن رحلة الانحدار التي تعيشها المدينتين ليس لها من تبرير سواء قوله تعالى سالف الذكر وإلا ما هي الدوافع التي دفعت كلا المدينتين الا هذا المنحدر السلوكي الذي حول سلوك الناس وقيمهم وثقافتهم الى سلوك متوحش دخيل وبرزت قيم دخيلة وغير معهودة ولم تكن متوقعه حتى في حسابات أكثر المحللين تشاؤما ..؟
أعرف أن المدينتين دفعتا كثيرا ثمن انفتاحهما وثمن تحولاتهما الحضارية التي انعكست بصورة إيجابية على كل الوطن اليمني وكان يمكن أن تكون تضحيات المدينتين قاعدة لتحولات حضارية وتنموية خالدة تعم كل الوطن اليمني إذا ما توفرت لهذا الوطن نخب قيادية نقية وتتماهي بنقائها مع نقاء تلك القيادات التي أحدثت تلك التحولات وترجمة الأفكار والاحلام الوطنية الى حقائق تمثلت بالثورة ضد نظامي الإمامة والاستعمار ثم رحلوا على أمل أن يتحقق ما بقى من احلامهم على يد الجيل التالي الذي تشرب منهم قيم المحبة والتسامح والثورة ضد الظلم والقهر الاجتماعي ؛ لكن ما حدث كان العكس فقد تحولات المنجزات والتضحيات الى مشاريع استثمارية لنخب كانت جزءا من المشكلة ولم تكن يوما جزءا من الحل الوطني ؛ ثم جاءت الوحدة وبدلا من أن تقوم بتصحيح المسار الحضاري الوطني زادت الانحرافات وبدت رحلة تيه واغتراب شملت مختلف المجالات الحياتية لشعب وجد نفسه تائها وبعيدا عن شواطئ الاحلام بل وبعيدا عن ذاته وهويته الوطنية والحضارية ليعيش سنوات في رحلة تيه تداخلت خلالها الهويات وتعددت الوصايات وطغت الانتهازية الذاتية والنرجسية الفئوية وهكذا انطلقت رحلة الأركسة التي لم تكن سواء رحلة تجريد هاتين المدينتين من كل قيم مكتسبة واخلاقيات حضارية وثقافة سلوكية لتتحول شوارع وأزقة المدينتين وإحياءيها وحاراتها الى أماكن للموت المجاني ولكل ظواهر الانحطاط السلوكي والثقافي .
ظواهر يصعب التخلص منها او معالجتها ما لم تكون هناك إجراءات وعي قاسية ونكرات ذات أشد قساوة وتلك عوامل يصعب تحقيقها في ظل واقع راهن موبوء بكل العاهات الاجتماعية وطغيان وسيطرة رموز انتهازية حاملة لمشاريع صغيرة واهداف تدميرية ؛ وفي وضوح أكثر فأن كل الفعاليات المتحكمة بصناعة القرار الوطني على مستوى المدينتين أو على مستوى الوطن اليمني هي جزءا من المشكلة وليست ولن تكون مطلقا جزءا من الحل مهما توهم الواهمين أو تفاءل بعض المتفائلين فاليمن لن تستقر جزيئا أو كليا في ظل هذه الفعاليات المرتهنة الباحثة عن ذاتها فوق انقاض الوطن والشعب ؛ إلا أن حدثت معجزة ربانية تعكس رحمة الله بهذا الشعب وينقذه من جلادين هم أشد قساوة من جلاوزة جهنم ؟ |