احمد عثمان - محرقة تعز هي إحدى أهم الأحداث التاريخية للثورة الشعبية؛ كشفت مدى القسوة والحقد ومستوى الإصرار والتضحية معاً, فقد أعدّ للمحرقة لكي تكون تأديباً وعقاباً جماعياً للمحافظة التي فجّرت الثورة واعتبرت لفترة طويلة محافظة مسترخية أو رخوة في مقاومتها للظلم لتثبت أنها محافظة تصبر وعلى قدر صبرها يكون صمودها وعلى قدر حلمها يكون غضبها.
اشترك في المحرقة جميع المعسكرات والأجهزة الأمنية التي تبلغ حوالي 11معسكراً ومؤسسة أمنية، كانت غزوة حربية بكل تفاصيلها تمّت بعد التأكد من خلو الساحة من السلاح, وبدلاً من احترام السلمية تأتي الهمجية لتزيد من طغيانها على الشعب المسالم.
كانت الساحة عبارة عن مجتمع مصغّر وحي يضم كل أبناء تعز معهم محافظة إب ومدن أخرى، لقد صارت ساحة الحرية أسطورة الثورة، أرادوا بإحراقها إحراق الروح المعنوية للثورة وتركيع المحافظة، ولم يعلّمهم التاريخ أن ثورات الشعوب عندما تنطلق لا تزيدها الاطفاءات الهوجاء إلا اشتعالاً ولا النيران إلا صموداً.
كانت فاجعة مؤلمة لمن حضر المحرقة أو تابعها عبر القنوات، لم يتحمّل البعض المشهد، ففقد عقله ودخل بعضهم في حالة نفسية مزمنة, كان الصمود تاريخياً؛ فقد رفض الناس الخروج وبقوا يواجهون القنابل السامة والرصاص والعنجهية السوداء، كانت الألفاظ البذيئة التي اتخذت طابعاً مناطقياً هي الأقسى، أحرقت الخيم، واستشهد أناس، وبقي الكثيرون يدافعون عن الضعفاء ويعينونهم على النجاة ويتلمسون لهم مخارج آمنة.
«نزيه المقطري» نموذج للأبطال والشباب المتجرد، لقد صمد إلى ما قبل الفجر يدافع عن كبار السن والضعفاء؛ يسهم في إخراجهم حتى استشهد بعد ترك وصيته كما يفعل العظماء، لم تنطفئ الثورة بالمحرقة؛ ولكنها أشعلتها بنار أكثر وبركان ولم يطل الوقت حتى بدا من أحرق الساحة يعض أصابع الندم ويتقلب بين نار فعلته.
اليوم هو الذكرى الثالثة للمحرقة، لن ينساها أبناء تعز، ولن ينساها اليمن مهما حاول البعض بكل لؤم محوها من ذاكرة الأجيال؛ فهي محطة من محطات كرامة الشعب اليمني, وعلى شباب الثورة ألا ينسوا هذا اليوم فهو جزء من كرامتهم.
ذكرى المحرقة تذكّرنا أن التضحيات التي خرج من أجلها اليمنيون ودفعوا دماءهم لن تموت ولن يستطيع أحد الالتفاف عليها، وأن عودة القتلة ومصاصي الدماء مقرون بالمستحيل نفسه، هناك تسامح يصنعه اليمنيون، وهناك حوار يصنع المستقبل نعم؛ لكن يجب أن يكون على قاعدة التغيير والثورة التي جاءت من أجل حرية اليمنيين وكرامتهم ودفن الاستبداد والتوريث والصنمية، من أجل مواطنة متساوية وتكافؤ فرص، من أجل إنسان لا يستغل ولا يحتقر، من أجل حضارة تقوم على حكم رشيد، ومن يمارسون اليوم "الفهلوة" وتلميع الماضي إنما يفقدون آخر أوراقهم ويشاركون في الإضرار باليمن ويدينون أنفسهم، وعليهم أن يكفّوا عن اللعب بالنار في خيمة اليمن الكبيرة.
على اليمنيين أن يتوحّدوا على قاعدة المستقبل وليس الماضي، على الشراكة والعدالة وليس الظلم، عليهم أن يتذكّروا شهداءهم عبر الثورات، فاليمن لا تستحق البقاء في مربع التخلُّف ومرابع اللصوص، مرحلة تبدأ بالعدالة الانتقالية وتمر باسترداد الأموال، وباعتذار عن الجرائم أو عدالة ترتضيها أسر الشهداء لتنتهي بتسامح بنّاء ويمن لا يعيد إنتاج الماضي الحقير ولا صورهم الكالحة في المشهد السياسي، والمهم أن يضمن اليمنيون عدم عودة «حليمة» لا من الطاقة ولا من الباب، يكفي فالدماء لن تكون يوماً ماءً، والثورة ليست نزهة وعطلة صيفية يعود بعدها القتلة واللصوص إلى مص دماء وأموال الشعب، وذاكرة الشعب لم تعد مثقوبة، وإرادته صلبة ويقظة لا تلين ولا تستكين ولا تُستغفل. |