ريمان برس - متابعات - شكلت الأحداث التي شهدها، ويشهدها اليمن تحدياً جدياً لمدى قدرة السلطات على مواجهة ظاهرة الانفلات الأمني التي تزايدت مؤخراً وتجلت في اقتحام مجمع وزارة الدفاع وسقوط العشرات بين قتيل وجريح، بينهم أجانب، بالإضافة إلى عدد من العمليات التي استهدفت نسف العملية السياسية، كان آخرها اغتيال للقيادي في جماعة الحوثي عبدالكريم جدبان .
أشاعت حادثة الهجوم على مجمع الدفاع مخاوف من أن تكون هذه الخطوة مقدمة لشيء أكبر يجري التخطيط له من قبل متضررين من استمرار العملية السياسية بإيقاعها الحالي الذي يعني تهديد مصالح بعض القوى السياسية وحرمانها من لعب دور محوري كما كان قبل ثورة الشباب العام 2011 .
لا شك في أن التطورات الأخيرة أظهرت حقيقة التعقيدات التي يواجهها اليمن في الوقت الحاضر، في ظل استمرار مراكز القوى التقليدية في ممارسة دورها ونفوذها لإبطاء التغيير الذي جاء على وقع الاحتجاجات التي عصفت بالبلاد ضمن موجة الربيع العربي، وهي الاحتجاجات التي منحت تنظيم القاعدة مزيداً من حرية الحركة، وتجسد ذلك في التمدد الذي حصل لقواعده وأنصاره مثل جماعة "أنصار الشريعة" في أبين وشبوة والبيضاء وحضرموت ومأرب وغيرها من المناطق التي تتسع يومياً لنشاط التنظيم .
وعلى الرغم من أن تنظيم القاعدة تبنى عملية وزارة الدفاع بصنعاء بعد ساعات من وقوعها، إلا أنه عاد ونفى صلته ببيان صدر بهذا الخصوص، ما يعني أن العملية أكبر من إمكانات وقدرات التنظيم .
وتعيد التطورات الأخيرة إلى الأذهان طبيعة التركيبة السياسية والقبلية التي كانت تحكم البلد إلى فترة قريبة وتبادل مواقع هذه القوى بعد التغيير الذي شهدته البلاد، حيث لا يزال النظام السابق يقاوم من أجل فرملة التسارع في اتجاه دفنه، والذي بدا واضحاً من خلال القرارات العسكرية والمدنية التي طالت قوة هذا الطرف، حيث لم يبق الرئيس عبدربه منصور هادي على أي من أقارب ومؤيدي الرئيس السابق علي عبدالله صالح في أي موقع عسكري كبير .
الرغبة في منع هذا التغيير عبّرت عنه أكثر من واقعة، دلت على أن النظام السابق يحاول امتصاص الضربات التي وجهت إليه من قبل هادي، من خلال رفض القرارات العسكرية التي اتخذها الرئيس، وأبرزها إعادة هيكلة الجيش الذي استبعد منه النجل الأكبر للرئيس السابق، العميد أحمد علي عبدالله صالح وإخراج قوات الحرس الجمهوري من قوام الجيش الجديد .
ما هو أبعد من ذلك، أن الصراع القائم حالياً يأتي على وقع الاتهامات بهيمنة جماعة "الإخوان المسلمين"، المتمثلة بحزب التجمع اليمني للإصلاح على الحكم، وهي الاتهامات التي يركز النظام السابق عليها من خلال التأكيد على أن الرئيس هادي وقع في شراك "الإخوان" وأن هذا يعد انقلاباً على المبادرة الخليجية وعلى التسوية السياسية برمتها .
أكثر من ذلك أن الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي تحول إلى " خصم" لحزب المؤتمر الشعبي الذي يتزعمه الرئيس السابق صالح، حيث يتهمه الحزب بالعمل على إقصاء كوادره من مفاصل الحياة السياسية والعسكرية والأمنية، وهو بهذا يريد التأكيد على أن المؤتمر الشعبي بيده إبقاء هادي في منصبه في الفترة المقبلة أو إبعاده عن طريق ترشيح شخص لخوض الانتخابات الرئاسية المقرر لها في العام المقبل، بحسب المبادرة الخليجية .
تعقيدات الحوار
على وقع هذه التعقيدات لم يمنح مؤتمر الحوار الوطني الذي تأخر عن موعد اختتامه نحو ثلاثة أشهر، تطمينات للمواطن المكتوي بلهيب الصراعات منذ عقود، من أن هذه الصراعات في طريقها إلى الزوال، بل إن الحوار زاد من ضبابية المشهد، يخشى معه المواطنون أن يتحول فشله ، إذا ما حدث، إلى فشل للعملية السياسية بأكملها ويدخل اليمن معه مرحلة ماهو أكثر من "الصوملة"، بخاصة إذا ما عرفنا أن عشرات الملايين من قطع السلاح تمتلئ بها مخازن المتخاصمين من الطرفين .
السؤال الذي لا يزال يدور في ذهن المواطن اليمني هو هل إن مؤتمر الحوار الوطني سيكون عاملاً من عوامل فك "شفرة الأزمات السياسية" التي يعانيها البلد منذ سنوات طويلة يعيد معها الاستقرار، أم يعيد الأمور إلى نقطة الصفر؟
الأحداث الأخيرة جددت التأكيد على أن الأزمة في اليمن لم تجد طريقها بعد للحل؛ فمراكز القوى لا تزال تعيد تموضعها في إطار المشهد السياسي والأمني يساعدها في ذلك تراخي وعجز حكومة الوفاق الوطني التي جاءت على تركة كبيرة وإرث ضخم من المشكلات والأزمات .
الحل الذي يراه البعض ويرفضه البعض الآخر يكمن في ضرورة إنجاح مؤتمر الحوار الوطني وتنفيذ مخرجاته، فبدونه ستدخل البلاد في دوامة جديدة من الأزمات، ومن هنا تطرح بعض القوى السياسية المشاركة في مؤتمر الحوار ضرورة الاتفاق على تبني مرحلة انتقالية، يسميها البعض "مرحلة تأسيسية" تضمن بقاء الرئيس هادي في الحكم لسنوات عدة، وهو ما يعرف في اليمن ب "التمديد"، بهدف ضمان تنفيذ نتائج مؤتمر الحوار الوطني .
ورغم أن "التمديد" يرفضه صالح وأنصاره تحت مبرر "الالتزام بالمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية" التي تنص على انتهاء المرحلة الانتقالية في الحادي والعشرين من شهر فبراير/شباط المقبل، فإن المؤتمر يمكنه أن يقبل بفترة تأسيسية أو حتى "تمديد" لهادي، شريطة أن يحصل على مزيد من التنازلات تبقي صالح وحزبه وأنصاره لاعبين أساسيين في المشهد المقبل .
وفي ظل هذا المشهد المتشابك فإن كثيرين يرون أن هادي عاجز، رغم الدعم الدولي الكبير الذي يجده من دول مجلس التعاون وأعضاء مجلس الأمن الدولي، وأن صالح يرمي بثقله كله لانتزاع ما يراه "حقاً" له في العودة إلى السلطة ، فيما يرى مراقبون أن صنعاء تحاول أن تكون عملية الانتقال بعيداً عن الدم، الذي ستغرق به البلاد إذا فشلت في ذلك .
بعيداً عن الشأن السياسي، فإن مظاهر التحفز الأمني والعسكري غير المسبوق الذي تشهده صنعاء بالتزامن مع تصعيد متجدد للتجاذبات السياسية الحادة بين الأطراف الرئيسية في المشهد السياسي القائم وتصاعد مماثل للسخط الشعبي عقب تدشين السلطات الحكومية تدابير احترازية ذات طابع أمني كجزء من تداعيات سابقة الاقتحام المسلح لمقر مجمع وزارة الدفاع بصنعاء، تؤكد أن الوضع لم يعد يحتمل مزيداً من الخضات .
تشديد الحراسات الأمنية والعسكرية على مقار البعثات الدبلوماسية بصنعاء ورفع سقف التدابير الأمنية المفروضة لحماية المصالح والمنشآت الحكومية ترافق مع إجراءات احترازية متزامنة من قبيل اغلاق محال بيع وخياطة الملابس العسكرية وحظر تنقل الدراجات النارية داخل شوارع العاصمة، أثار حالة من السخط في بعض الأوساط الشعبية لاعتبارات تتعلق بتقاطع هذه التدابير مع الهامش المتاح للعديد من الأسر للتكسب وتحصيل الرزق .
ويعتبر الأكاديمي المتخصص في علم الاجتماع الدكتور عبدالرحمن أحمد المقرمي في حديث مع الخليج" أن اقتحام مسلحين من تنظيم القاعدة مقر مجمع الدفاع بصنعاء وما تخلل هذا الاقتحام من مشاهد قتل تعرض لها أطباء وطبيبات ومرضي داخل المستشفى الملحق بالمجمع الذي يعد المنشأة العسكرية الأهم في البلاد، تسبب في تصعيد أزمة الثقة القائمة بين الشارع العام والحكومة إلى حد مطالبة البعض بالعودة الى الساحات كوسيلة لإسقاط النظام الحالي على غرار ما حدث في العام 2011 من اعتصامات عامة أدت إلى سقوط النظام الحاكم السابق .
وجاء تصاعد مظاهر وتداعيات الخلافات السياسية بين الأطراف الرئيسية الموقعة على اتفاقية التسوية السياسية بالترافق مع تفاقم حالة الانفلات الأمني التي تعانيها العاصمة صنعاء والعديد من المدن الرئيسية الاخرى ودفع إلى الواجهة بمخاوف متزايدة من انتكاسة محتملة للعملية السياسية القائمة في البلاد جراء التراخي الحكومي في ضبط الاوضاع الأمنية والحد من الاختلالات وفرض حضور وسطوة الدولة في المناطق التى تشهد صراعات مسلحة مثل دماج بمحافظة صعدة والعصيمات وحرض بعمران وحجه، وتعذر التوصل الى حسم للتباينات القائمة بين المكونات الممثلة في مؤتمر الحوار الوطني وتحديد موعد زمني لاختتام أعماله .
ويشير الناشط السياسي اليمني عبد القدوس العزي في حديث مع "الخليج" إلى أن هناك تصعيداً طارئاً للأوضاع الأمنية والخلافات السياسية بالترافق مع اقتراب موعد اختتام مؤتمر الحوار الوطني، وأن هذا التزامن ليس من قبيل الصدفة وانما يبدو موجهاً لإفشال الحوار وتعقيد التوصل لتوافق حول القضايا الخلافية المتعلقة بتحديد شكل الدولة والتسريع باختتام مؤتمر الحوار الوطني .
من هنا يرى الكثير من المراقبين أن صنعاء أمام مفترق طرق لتحديد هوية الدولة القادمة وبدء العمل على استعادة الدولة الضائعة بفعل تراكمات الماضي التي أثرت في الوضع السياسي والاجتماعي بأكمله، بخاصة في ظل استمرار التجاذب حول مستقبل البلد والمخاوف التي تشكلها التطورات في الجنوب من أن تكون مقدمة لدخول البلد مرحلة عدم التوازن وفقدان الهوية التي حافظ عليها اليمنيون قروناً طويلة .
- الخليج |