ريمان برس -

يظل الزعيم جمال عبد الناصر هو الغائب الحاضر، غائب في جوار ربه، حاضرا في ذاكرة الأمة ووجدان اجيالها المتعاقبة.. هو الزعيم الذي لم يموت وأن رحل عن دنيانا، وهو الزعيم الحاضر دوما عند كل أزمة تعيشها الأمة وتواجهها شعوبها.. هو الزعيم الذي نستحضره ونستحضر مواقفه عند كل حدث يداهم أمتنا، وهو من نستعيد مواقفه في كل أحداثنا الوطنية والقومية، وهو الزعيم والقائد والمعلم الذي يعلوا عن كل الصغائر واسمي من أن تنال منه تخرصات الأعداء والحاقدين ومن يحاولوا تبرير دونيتهم ويزعمون _كذبا _أن الزعيم كان سيحذو حذوهم وسيفعل ما يفعلوا لو امتد به العمر، أو أنه فكر كما يفكروا هم اليوم، كما ذهب البعض في تفسير المكالمة المسجلة التي كشف عنها مؤخرا ودارت بين الزعيم وبين العقيد معمر القذافي وكانت في اغسطس 1970م.. في تلك المرحلة كان الزعيم وقلة من حوله يدركون توجهات وخطط الزعيم ويعرفون نواياه ولم يكن هناك من يدركون حقيقة توجهات الزعيم أكثر من (خمسة رجال) شاركوا الزعيم بعد نكسة يونيو _حزيران 1967م مهمة إعادة بناء الجيش العربي وتاهيله وتسليحه واعداده لمعركة العبور التي كان الزعيم قد حددا موعدها في 10 أكتوبر 1970م.
كان الزعيم قد قام بزيارة سرية لموسكو عام 1968م والتقى الزعيم السوفيتي وقادة الاتحاد السوفييتي وكانت زيارة عاصفة وخطيرة وشهدت مصارحة ومكاشفة بين الزعيم والقادة السوفييت أثمرت أن فتح السوفييت مخازن اسلحتهم ومصانعهم وقدموا للزعيم كل ما طلبه منهم من أسلحة دون التوقف أمام العوائد المالية..
اشترط الطرفان العربي والسوفييتي على سرية الصفقة وسرية شحنها ووصولها الي مصر، وكلف السوفيت رئيس جهاز المخابرات ال ( كي.. جي.. بي _ أندربوف ) ليكون مسؤلا من طرفهم عن مهمة إيصال الصفقة، فيما اختار الزعيم مسؤلا من جانبه عن تولي مهمة إيصال الصفقة السرية وهو الأستاذ محمد حسنين هيكل..؟!
كان اختيار الزعيم لكاتب صحفي كهيكل الذي يثق به أولا وثانيا كان الاختيار جزءا من سياسة ( تضليل العدو) الذي اعتمده الزعيم في مرحلة ما بعد النكسة وإعادة بناء الجيش والأجهزة الامنية بعد التخلص من طابور ( الخونة والمستهترين).
جزءا من ( سياسة التضليل) التي اعتمدها الزعيم كان قبوله ل( مبادرة روجرز) وزير الخارجية الأمريكي، التي تلقى الزعيم علي أثر قبوله بها ( سيلا من الشتائم) و( التخوين) والتهم الجزافية ومن قبل الجميع دون إستثناء ( اليسار الماركسي_ واليسار القومي_ واليمين الرجعي)، كانت القوات العربية المصرية تحتاج إلى هدنة لبناء قواعد الصواريخ وقواعد الدفاعات الجوية، وكأن الطيران الصهيوني وطائرات التجسس الصهيونية والأمريكية والبريطانية ترصد كل حركة على ضفتي القناة وعلى امتداد الحدود المصرية، وكأن قادة الجيش العربي محتاجين لهدنة مدتها 70 يوما ليتمكنوا من إقامة قواعد الدفاع الجوي ولهذا قبل الزعيم مبادرة روجرز وكانت مدتها 90 يوما..!
أن الحرب خدعة ومن متطلبات الحرب كان موافقة الزعيم علي ( مبادرة روجزر) وكان حديثه مع العقيد القذافي يأتي في هذا السياق، عبد الناصر الذي رفض عرضا أمريكيا حمله إليه الملك فيصل يقضي بانسحاب الصهاينة من كل الأراضي المحتلة عام 1967م وهي سيناء المصرية و الجولان السورية، وقطاع غزة والضفة الغربية والقدس، مقابل إبرام عبد الناصر _معاهدة سلام مع الصهاينة، وتخليه عن مشروعه العربي القومي وحكاية الوحدة وأهداف النضال العربي _ورفض عبد الناصر العرض انطلاقا من مبدأ وقناعة بأن ( السلام مع الصهاينة) هو الفعل المستحيل، وكأن رد الزعيم علي العرض الأمريكي يتمثل في ( لأءات الخرطوم الثلاث لا صلح.. لا مفاوضات .. لا اعتراف إلا بعد إزالة آثار العدوان)..
رغم اشادة الملك فيصل برد الزعيم علنا لكنه كان غير مرتاح منه سرا، فبدت بعد قمة الخرطوم ثقافة معادية لتوجهات الزعيم حافلة بمفردات المزايدة السياسية من قبل عديد من الأنظمة العربية ومنها نظامي ( دمشق وبغداد) وبعض ( الفصائل اليسارية الفلسطينية) التي كانت تشن هجوما متواصلا على الزعيم..
كانت مبادرة ( روجرز) قد سقطت واكتشف الامريكان والصهاينة أن الزعيم خدعهم في قبولها من أجل تعزيز قدرات الدفاع الجوي المصرية بعد إقدام هذه الدفاعات بإسقاط العديد من طائرات العدو حاولت اختراق المجال الجوي وقامت على أثر ذلك حملة أمريكية _غربية ضد مصر والزعيم وضد الاتحاد السوفييتي وحين طلبت ( جولدمائر) رئيسة وزراء العدو التدخل الأمريكي لضرب قواعد الدفاعات الجوية المصرية رفض الأمريكان وحذروا الصهاينة من الأقدام على هكذا فعل لأن حدوثه يعني مواجهة مع السوفييت وحلف وارسو نظرا لوجود أكثر من 15  ألف خبير سوفييتي في مصر..؟!
مكالمة الزعيم مع العقيد القذافي جاءات في هذا السياق،  استراتيجية (تضليل العدو) إذ لم يكاد الزعيم ينهي مكالمته مع العقيد القذافي _الذي كان فعلا من محبي الزعيم ومعجبا به، وغيور عليه_ حتى اشتغل هاتف القذافي للعديد من الزعماء العرب مهاجما بعضهم على تخاذلهم ومتهما بعضهم بالخيانة والتأمر على الأمة والزعيم وعلى فلسطين والقضية..؟!
رد فعل القذافي تم نقله للأمريكان وتناولته الصحف الغربية والصهيونية وزادت ثقة الصهاينة بعجز مصر عن شن حربا أخرى وبقرب التفاوض مع ( القاهرة) وابرام اتفاقية سلام معها..؟!
كان الزعيم يعد الجيش للعبور في أكتوبر 1970م،غير أن الأحداث التي تلاحقت عليه حالت دون ذلك، أولها حالته الصحية وإصرار طبيبه والأطباء المشرفين على حالته الصحية بضرورة أن يرتاح وهو المصاب ( بتصلب شرائين الساق) منذ عام 1967م وتم منعه من تناول  ( القهوة والتدخين) ولكن الزعيم لم يلتزم بل خفف ( التدخين) مكتفيا ( بتدخين 80 سيجارة يوميا) وتناول القهوة ثلاث مرات يوميا، وفي استراحة الأسكندرية راح الزعيم ليقضي فترة نقاهة لم تدوم لأكثر من ايام إذ تفجر خلاف في ليبيا بين القذافي وعبد السلام جلود فهرعوا معا لعند الزعيم الذي ما أن أصلح بينهم حتى تفجرت أحداث أيلول الأسود بين النظام الأردنى والفصائل الفلسطينية ليعود الزعيم للقاهرة ويتابع أحداث الأردن وفيما تقاطر كل الزعماء العرب للقاهرة رفض الملك حسين الحضور إلا بعد التخلص من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية  ( ياسر عرفات) فأضطر الزعيم أن يكلف الرئيس ( جعفر نميري) ومعه بعض ضباط من مصر للسفر للأردن واحضار ياسر عرفات قبل أن يصل إليه الأردنيين وقد حدث، ليتصل الزعيم بملك الأردن ويبلغه أن ( عرفات) عنده بالقاهرة..!
وخلال أعمال القمة العربية الأخيرة للزعيم قضى الزعيم ثلاث أيام بلياليها بدون نوم وبدون راحة، غذائه خلالها (السيجارة والقهوة) تم الاتفاق وتصافح الملك حسين وعرفات والتقطت لهما صورة كان يتوسطهم الزعيم وحسين على يساره وعرفات على يمينه ونشرتها ( نيويورك تايمز) بتعليق وحيد ( لولاء عبد الناصر ما كانت هذه الصورة)..!
طبعا كثيرون قد لا يعرفون أن أولى جلسات تلك القمة بدأت بمشادة بين القذافي والملك فيصل، بسبب مسدس العقيد القذافي، ثم تفجرت الخلافات بين القذافي والملك حسين بسبب مسدس الملك وهذا السلوك دفع الرئيس حافظ الأسد ليقول ( كنا كالأطفال في تعاملنا وكان الأب والأخ والكبير الذي يحل مشاكلنا ويقوم اعوجاجنا)..
هذا هو الزعيم الذي لم تنجب الأمة له مثيلا بعد نصف قرن من رحيله، الزعيم الذي (رفض أن يموت) كما قال أحد الزملاء عنه ذات يوم.
30 إبريل 2025َم