ريمان برس - خاص -
بعيدا عن السياسة ، وبعيدا عن تداعيات أحداث اللحظة التاريخية ومآسيها ، دعونا نقف أمام روزنامة من التساؤلات المتعلقة براهن حالنا الوطني ولكن لنعرف مأهية الدوافع والأسباب التي أوصلتنا لهذا الراهن ، وكذا عن العوامل التي حالت دون تمكنا من حل جدلية المعادلة القديمة حول ( الدولة والهوية ) ومعرفة المسببات الفعلية التي أجبرتنا على حياة الفوضى والعنف والصراع الإجتماعي ، لأن صراعنا اليوم لم يكن بالمطلق وليد اللحظة ولا هو نتاج الإرهاصات التي نرددها وأسبابها ودوافعها ، ولا هو متصل بالروايات التي نسردها في خطابنا السياسي والإعلامي وفي مفرداتنا الثقافية وقيمنا وقناعتنا المكتسبة ، أن مشكلة اللحظة لها علاقة وطيدة بمشكلة الأمس والأمس البعيد ، ومرتبطة إرتباط وثيق بقيم وتقاليد ومواريث دينية وإجتماعية وقبلية مكتسبة ضاربة جذورها في أعماق التاريخ الوطني ، وهي أيظا مرتبطة أكثر بالمكان كتضاريس وبيئة وهما يلعبان دورا محوريا مؤثرا في تشكيل شخصية وهوية الفرد ولهما تحسب قناعات وسلوكيات الفرد ..
فالمكان هناء ينقسم لموقع وأهميته ولجغرافية وبيئة ، وأن كان الموقع يحدد من خلاله أهمية الوطن بالنسبة للإقليم المحيط وللنطاقات الجغرافية البعيدة باعتبار الموقع بأهميته الإستراتيجية للأخر يغدوا هدفا لأصحاب المشاريع الأستراتيجية في العالم ، فأن الجغرافية بتضاريسها تحظى بأهمية لأنها تحدد شخصية الفرد الفاعل أو بالأصح هي من تنتج القائد الكارزمي الذي من خلال دوره ومواقفه وسلوكياته يمكن أن نستنتج هوية اللحظة ومسارات الفعل ومدى إمكانية إخضاع الجغرافية وجعلها تتماهي بمخرجاتها مع التطلعات والطموحات الجمعية للوطن والشعب ..كيف ؟ وماذا أريد أن أقول وبوضوح ..؟
ما اود قوله هو إننا لم نحاول يوما وعبر تاريختوالتقاليد
ف أمام الضروف البيئية التي شكلت ثقافة وقناعات القيادات السياسية التي حكمت وتحكمت بمسارنا التاريخي ، لأن الضروف البيئية التي نشاء فيها هولاء القادة الذين تعاقبوا على حكم اليمن تاريخيا لم تكن ضروف طبيعية وبالتالي فأن هولاء القادة حكمتهم وتحكمت بهم ضروف نشأتهم وهي من شكلت قيمهم وتقاليدهم وسلوكياتهم وعنونت مساراتهم السياسية ، أنطلاقا من حقيقة علمية وهي أن للبيئية والتضاريس والتنشئية الأسرية والاجتماعية والدينية والثقافة المكتسبة والعادات والتقاليد لكل هذه المفاهيم دورا في تشكيل الشخصية الفردية ومنها شخصية القائد أو الحاكم الذي تقلد مناصب قيادية جسد خلالها قيمه المكتسبة من بيئته وضروف تنشئته أسريا وأجتماعيا .
* البيئة والمجتمع ودورهما في إنتاج الشخصية الفردية ..
يعرف المجتمع بأنه كتلة بشرية حركتها ديناميكية بفعل عوامل متعددة ذات فعالية متبانية منها ما يتعلق بتأثير الرواسب الكامنة في الذات ومنها ما يتعلق بظروف البيئة الاجتماعية وتأثيرها في الحراك الاجتماعي.
فالقيم الاجتماعية (العادات والتقاليد) وكذلك القيم الدينية الضاربة جذورها في عمق التاريخ تفرض سلوكاً محدداً على أفراد المجتمع من خلال محرمات العيب والحرام التي تجبر الأفراد على التصرف بمقتضياتها ليكونوا مقبولين اجتماعياً، لكن ذات المحرمات في مجتمع مغاير ليس لها تأثير على سلوك وممارسة الفرد لأنها متقاطعة مع قيمهم الاجتماعية والدينية.
إن الإنسان تحكمه قيم البيئة الاجتماعية التي يترعرع فيها لكن عند انتقاله إلى بيئة اجتماعية مغايرة في القيم، يتغير سلوكه وممارسته بوعي كامل ليكون عنصراً اجتماعياً مقبولاً فيها دون أن تجبره قيم النشئة على سلوكه القديم.
ويرتبط ذلك بمستوى وعيه وعمره ومدى استعداده للتغيير والاكتساب من المجتمع الجديد لكن عند تنازع ذات الفرد( الصنمية ) مع ذاته( الحاضرة )، يصبح التغير طفيفاً في لاوعيه لينعكس على سلوكه وممارسته اليومية دون أن يشعر أو يقر بذلك.
يقول (دوركيم"أن التقاليد تصبح قوية إذا بقى الإنسان في ذات المكان الذي تربى فيه ومع نفس الأشخاص الذي يعرفونه فيكون سلوكه متوافقاً معهم، وعند انتقاله إلى بيئة اجتماعية مغايرة يتغير سلوكه ليكون منسجماً مع معارفه الجدد")...
* الشخصية الفردية والمؤثرات الاجتماعية والتقاليد..
إن منظومة القيم تفعل فعلها في تشكيل شخصية الفرد وتفرض عليه نمطاً من التفكير والسلوك لتصنع منه إنسان صالح للعيش في النظام الاجتماعي، وبالرغم من أن مستوى وعي الفرد يلعب دوراً أساسياً في تبنيه لموقف ما من الأحداث والقضايا العامة لكن قيم البيئة الاجتماعية تفرض نمطاً قهرياً عليه.
يعتقد (ماكس فيبر "أن مسار الفعل يتحدد في المقام الأول بطبيعة الموقف الذي يوجد فيه الفرد، فالظروف التي تحكم الموقف لها تأثير قهري على تشكل النسق في الذات".
لذلك لايجوز القفز على تأثير قيم البيئة الاجتماعية على سلوك وممارسة الفرد في المجتمع عند البحث في ماهية الحراك الاجتماعي ودوافعه وكذلك في ماهية المناهج التربوية المطلوبة لإجتثاث السلوكيات والممارسات غير السوية من وجدان المجتمع.
وبالرغم من أهمية العمل على الذات ورواسبها الكامنة للتأثير على سلوكيات وممارسات الأفراد في المجتمع من خلال المناهج التربوية لتكون متوائمة مع توجهات الدولة، فالأمر يتطلب تأمين البيئة الاجتماعية الملائمة للجيل الجديد وإلا فإن كامل الجهد سيذهب سدى.
وعليه فإن نبذ القيم الاجتماعية البالية والمؤثرة سلباً في سلوك وممارسة الفرد وتعطيل فعالية بعض القيم المكتسبة غير المتوائمة مع مجريات العصر والمعززة لسلوكيات وممارسات غير سوية في الذات كالعنف وعدم تقبل الآراء المخالفة وفرض القيم على الآخرين بالقوة كفيل بنجاح مناهج التربية وإعداد جيل جديد.
إن أخلاقيات المجتمع تعتبر جزءً أساسياً من منظومة القيم الاجتماعية المكتسبة والتقاليد وبما أنها قيماً ضاربة الجذور في عمق التاريخ ولاينسجم البعض منها مع مجريات الحاضر، فلابد من تعطيلها ليتحرر الحاضر من سلاسل الماضي المكبل لتطوره ومساره نحو المستقبل.
يرى (باريتو)"أن الفضيلة والأخلاق الجنسية...ليست إلا بلاغة لغوية مصاغة بشكل واعي لإخفاء جوهر الإنسان".
إن حجم التغير الذي يطرأ على الكائن الاجتماعي عبر التاريخ أكثر من حجم التغير الذي يطرأ على بيئته الاجتماعية لذلك يبقى الفرد أسيراً لسلوكيات وممارسات محددة تفرضها قيم البيئة الاجتماعية دون أن يتمكن من التخلص من قيودها المكبلة.
لذا يتطلب أتخاذ مسارين للعمل لتغيير السلوكيات والممارسات السلبية لأفراد المجتمع، منها ما يتعلق بأتباع منهاج تربوية (تجتث) الرواسب السلبية الكامنة في وجدان المجتمع، ومنها ما يتعلق بتهيئة البيئة الاجتماعية الملائمة للجيل الجديد من خلال تعطيل منظومة القيم الاجتماعية السلبية المعرقلة للسلوكيات والممارسات السوية التي تم غرزها عبر التربية الاجتماعية والتقاليد والطقوس السلوكية والفكرية في وجدان الجيل الجديد ). |