ريمان برس -
كتبها المستشار عبد الغني درهم اليوسفي
في قلب اليمن الأخضر، حيث تتشابك جذور التاريخ مع عروق الطبيعة الخلابة، تقف شامخة جبال محافظة إب، مرصعة بوديان خضراء تحتضن أسرار التنوع البيولوجي الفريد. هنا، حيث تحتضن القمم الغيوم، تتكشف فصول مأساة سنوية، بطلها ألسنة اللهب المتصاعدة التي لا ترحم الغطاء النباتي الثمين. إنها قصة حرق المراعي الطبيعية، تلك البساط الخضري الممتد من حشائش متنوعة، وأعشاب طبية وعطرية تفيض بالفوائد، ونباتات زينة تسر الناظرين، وأشجار عسل جبلية تضفي على المكان سحرًا خاصًا. هذا التقليد الموسمي المحزن يتكرر في ربوع محافظة إب، ليطال بشكل خاص مديرية السياني التي تحتضن وحدها ثلاثة عشر جبلًا، بالإضافة إلى مديريات أخرى تكتوي بنيران مماثلة.
بؤرة اللهب تتسع: إب تحترق.. والسياني في قلب النيران
في كل عام، ومع اشتداد حرارة الجو وقبل أن تهطل الأمطار المنعشة، تتحول مساحات واسعة من محافظة إب إلى ساحات حرب ضروس، حيث تتصاعد ألسنة اللهب لتلتهم المراعي والحشائش والأشجار القصيرة والمتوسطة. يناير وفبراير ومارس، تلك الأشهر التي يفترض أن تستعد فيها الطبيعة لاستقبال الحياة، تتحول إلى كابوس أخضر يتحول إلى رماد.
في قلب هذه المأساة، تقف مديرية السياني شاهدة على فاجعة حقيقية. ست عزل من أصل ثلاثة عشر، تضم بين جنباتها ثلاثة عشر جبلًا تحتضن أكثر من ثمانين قرية، اكتوت بنيران لم ترحم. تقديرات أولية تكشف عن رقم مفزع: أكثر من 44 مليون متر مربع (44.46 كيلومتر مربع) من الأراضي الخضراء تحولت إلى أرض قاحلة في السياني وحدها. والمقارنة بالسنوات الماضية ترسم صورة قاتمة، حيث تشير إلى زيادة مقلقة في حجم الحرائق تقدر بنحو 40%. أما في المديريات الأخرى، فتشير الأرقام الأولية إلى احتراق مليوني متر مربع في بعدان، وأربعين ألفًا في الشعر، وثلاثمائة وخمسة وسبعين ألفًا في الظهار.
"السياني تحترق": شهادات من قلب الجحيم تكشف حجم الفاجعة
في مسح ميداني مؤلم، تجول معد التقرير في مديرية السياني المنكوبة، ليجمع شهادات حية ترسم صورة قاتمة للخسائر. في عزل عميدين، نخلان، الدامغ، ذي اشرق، والنقيليين، لم يعد للسفوح الخضراء وجود، فقد تحولت إلى لوحات رمادية قاتمة، تشهد على وحشية النيران.
# الجدول
*هذا الجدول الصامت يصرخ بحجم الفاجعة، يكشف عن خسائر فادحة في التنوع النباتي الثمين، وتدمير لمخزون البذور الذي تعتمد عليه دورة الحياة الطبيعية. نسبة الفقدان المرتفعة تنذر بكارثة بيئية حقيقية، تهدد مستقبل هذه المناطق الخضراء.
لماذا تُشعل النيران؟ رحلة في الذاكرة الشعبية تصطدم بحقائق الواقع
"الحريق في الأراضي المراعي والعشبية يلتهم النباتات بالكامل، لا يوجد فاصل بين سطح التربة والمجموع الخضري." هكذا يصف أ.د. حسنى ابوجازية طبيعة هذه الحرائق المدمرة. إنها ليست مجرد نيران سطحية، بل هي ألسنة لهب تستعر لتأكل الأخضر واليابس، تاركة وراءها أرضًا قاحلة وذاكرة مريرة.
في محاولة لفهم هذا التقليد السنوي، ينقلنا التقرير إلى أعماق الذاكرة الشعبية، حيث تتشابك المعتقدات مع الممارسات.
• الرأي الشعبي: "نحرق الحشائش الميتة لتنظيف الأرض وتجديدها، لتنبت حشائش جديدة أفضل للرعي." هذا الاعتقاد الشائع، كما يكشف التحليل، يصطدم بالحقائق العلمية التي تؤكد على التدمير الشامل للتربة والتنوع البيولوجي.
• الموروث الشعبي: "يقول الأجداد أن حكيم الذراعين و ولد زائد يأتيان مع حرارة الشمس ويساعدان في حرق الحشائش الضارة حول المزارع." هذا الموروث، رغم محاولته تفسير الظواهر الطبيعية، لا يقدم مبررًا علميًا لحرق المراعي على نطاق واسع.
• صوت العقل من السلطة المحلية: الشيخ أحمد علي عانم الوائلي يرفع صوته محذرًا: "حرق الحشائش الجبلية يمثل ضررًا بيئيًا وسياحيًا وحيوانيًا كبيرًا، ويساهم في زيادة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، مما يؤثر على جودة الهواء وصحة السكان." هذا الرأي يتفق مع الحقائق العلمية التي لا يمكن تجاهلها.
• صرخة المتخصصين من المكاتب التنفيذية: مدير الزراعة يوضح الصورة القاتمة: "الحرائق تؤدي إلى التصحر وتدهور الأراضي الزراعية، ونضوب المراعي الطبيعية، وتلوث الهواء، وتبوير الأرض وفقدان خصوبتها على المدى الطويل، بالإضافة إلى إتلاف جذور الأشجار والنباتات والحشائش وتلاف البذور التي تعتمد عليها دورة الحياة الطبيعية." ومدير السياحة يضيف بعدًا اقتصاديًا: "تدمير الغطاء النباتي نتيجة الحرائق يقضي على جمال الطبيعة الخضراء التي تجذب السياح، ويؤدي إلى تلوث الهواء الذي ينفر الزوار."
• الرأي العلمي الفصل: الدراسات البيئية تؤكد بالإجماع أن الحرائق تدمر النظم البيئية، وتؤدي إلى فقدان التنوع البيولوجي، وتدهور التربة، وزيادة انبعاثات الغازات الدفيئة، وتؤثر سلبًا على صحة الإنسان. دراسات جامعة روساريو الأرجنتينية بالتعاون مع الأمم المتحدة تشدد على الآثار المدمرة متعددة الأوجه لهذه الحرائق.
فجوة بين المعتقد والواقع: استنتاج يدعو إلى الصحوة
يتضح جليًا وجود فجوة عميقة بين بعض المعتقدات الشعبية المتوارثة حول "فوائد" حرق المراعي والحقائق العلمية التي تصرخ بآثارها المدمرة. هناك وعي متزايد لدى السلطات المحلية والخبراء بالخطر الحقيقي لهذه الممارسات، مما يستدعي تحركًا عاجلًا وتضافرًا للجهود لتغيير السلوكيات الخاطئة وتطبيق القوانين لحماية هذه الثروة الطبيعية التي لا تقدر بثمن.
هل يحمي القانون "رئة اليمن"؟ تحليل يكشف الثغرات
تحليل معمق للتشريعات القانونية يكشف عن حقيقة مؤلمة: القانون وحده قد لا يكون كافيًا لحماية "الرئة الخضراء" لإب.
• قانون حماية البيئة رقم (26) لسنة 1999 وتعديلاته: يجرم الإضرار بالبيئة الطبيعية والتنوع الحيوي، لكنه قد لا يكون محددًا بما يكفي لتناول قضية حرق المراعي بشكل خاص.
• قانون الغابات والمراعي: من المفترض أن يحمي المراعي والغابات، لكن فعاليته وتطبيقه على أرض الواقع قد يكون محدودًا.
• القوانين واللوائح المحلية: قد تجرم حرق الأراضي الزراعية والمراعي، لكن مدى تطبيقها يحتاج إلى تقييم دقيق.
تقييم فعالية التشريعات القائمة يكشف عن الحاجة إلى تحليل معمق لشموليتها ووضوحها وتحديد العقوبات الرادعة. كما أن آلية التنفيذ والتطبيق تواجه تحديات كبيرة في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في اليمن.
توصيات عاجلة: نحو إنقاذ ما تبقى من "الرئة الخضراء"
بناءً على التحليل الشامل، يقدم التقرير مجموعة من التوصيات العملية لإنقاذ "الرئة الخضراء" لإب:
1. حملات توعية مكثفة: لتصحيح المعتقدات الخاطئة وتوضيح الآثار المدمرة للحرائق.
2. تفعيل وتطوير التشريعات: لتوفير قوانين واضحة وعقوبات رادعة.
3. تعزيز دور السلطات المحلية: لتمكينها من تطبيق القوانين والتدخل السريع.
4. تشجيع البدائل المستدامة: لدعم ممارسات إدارة المراعي والمخلفات الزراعية الصديقة للبيئة.
5. تعزيز الحماية المجتمعية: بتشكيل لجان محلية للمراقبة والإبلاغ.
6. إجراء المزيد من البحوث: لفهم الأسباب الجذرية وتقديم حلول مبتكرة.
7. التعاون مع المنظمات: للاستفادة من الخبرات والموارد في حماية البيئة.
8. تنمية السياحة البيئية المستدامة: لخلق فرص عمل وحماية البيئة كمورد اقتصادي.
مسؤولية مشتركة: مستقبل "الرئة الخضراء" في أعناقنا
إن حرق المراعي في إب ليس مجرد مشكلة بيئية، بل هي قضية ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية وثقافية عميقة. تتطلب مواجهتها تضافر جهود الجميع. بالوعي والتطبيق الفعال للقوانين وتبني الممارسات المستدامة، يمكننا تحويل مشهد الرماد الحالي إلى مستقبل أخضر ومزدهر للأجيال القادمة.
(مرفق جداول ورسوم بيانية موضحة في النص الأصلي) |