ريمان برس -خاص - كانت قرارات وتوصيات مؤتمر ( باندونج ) 1955م قد حملت بصمات الزعيم جمال عبد الناصر وتوجهاته إلى جانب قادة عدم الأنحياز وأبرزهم الزعيم الهندي نهرو وسيكتوري وفيما كانت الأنظمة العربية ممثلة بالأنظمة الرجعية تخشي نفوذ ناصر وتجربته الثورية التي لامست شغاف القلوب ومثلت جل مطالب الجماهير العربية وكل أهدافها في الحرية والإنعتاق من براثن القوى الإقطاعية والرموز المستبدة والحياة السياسية والحزبية الفاسدة وهيمنة القوى الإستعمارية الحليف الأساسي لكل رموز القهر والأستبداد الاجتماعي فجاءت الثورة الناصرية ضد كل هولاء وضد سياستهم القمعية ..في ذات الوقت الذي كانت فيه قوى الأستعمار تسعى جاهدة لإخماد ثورة ( ناصر ) وضرب تطلعاتها والحيلولة دون إمتداد تأثيرها الإجتماعي إلى خارج تخوم إقليم مصر العربي كخطوة أولى في محاولة ضربها داخل مصر ذاتها ..ولم يأتي عام 1956م بتطوراته وتحولاته الثورية إلا وقد توحدت وتوافقت قوى السيطرة والهيمنة الإستعمارية على ضرب ثورة يوليو وقائدها ومشروعهما الحضاري العربي التحرري فكان قرار تأميم شركة قناة السويس بمثابة الذريعة التي أستغلتها القوى المضادة للثورة العربية في داخل مصر والوطن العربي والعالم وواجه ناصر بصلابة القائد التاريخي والإستثنائي القائد الصادق الذي لم يخذل أهله وبإرادة ثورية عالية واجه ناصر مؤامرات العدوان الثلاثي _ إسميا _ لكنه كان في الواقع عدوان مركب قامت به بريطانيا والكيان الصهيوني وفرنسا غير أن كثيرون ممن كانوا يخشون تأثير الثورة وإمتدادها إلي الوطن العربي وإفريقيا رحبوا سرا وكل على طريقته بذاك العدوان الذي لم يقهر مصر الثورة وقائدها بل كشف للعالم همجية أعداء الشعوب وعظمة ناصر وثورته وأنتصرت الثورة وقائدها لكنه كان الأنتصار المشفوع بتبعات وأعباء وأستحقاقات كبيرة وتحديات فرضت على الثورة وقائدها مهام ومسئوليات وطنية وقومية وإنسانية وأخلاقية إلى جانب التبعات السياسية والثقافية والفكرية ..وأهم تبعات النصر الثوري في مواجهة عدوان 1956م كان تحمل مصر وقائدها مهمة تحرير الإرادة العربية في الجزائر والوطن العربي وتصفية الخارطة القومية من الوجود الإستعماري بكل صورة ومن أدواته ومن أدران الجهل والتخلف فكان والحال كذلك على الثورة وقائدها العمل من أجل تحقيق أهداف النضال العربي في الحرية والاشتراكية والوحدة ..الأمر الأخر كان موقع مصر الجغرافي يحتم عليها التعامل مع القارة السمراء إفريقيا بمسئولية لاتقل عن مسئوليتها تجاه أقطار الوطن العربي الذي جزءا من نطاقه الجغرافي يقع أيظا ضمن القارة الإفريقية وهكذا راحت مصر عبد الناصر تقدم كل أشكال الدعم المادي والمعنوي والعسكري والسياسي والثقافي والفكري وحتى الديني لأحرار أسيا وأفريقيا فدعمت كل حركات التحرير في أفريقيا باتريس لومومبا..نكروما..كابيلا..وكذا ثوار الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا واليمن والعراق وسورية وقبل كل هولاء كانت قضية فلسطين المركزية وهي بفكر ووجدان ناصر وتجربته تعد القضية العربية الأولى ولم يؤمن ناصر وثورة يوليو بفكرة ( فلسطين شأن فلسطيني ) ولا بفكرة أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب العربي في فلسطين ..بل كان ناصر وكانت تجربته الثورية تؤمن إيمانا راسخا بقومية المعركة وقومية تحرير فلسطين وقومية الصراع الذي يستهدف الوجود القومي العربي بكل مقوماته الحضارية ..
على الصعيد المحلي راحت الثورة تحقق تحولاتها التنموية والاشتراكية فحقتت في سنوات معدلات تنموية غير مسبوقة وصفتها تقارير البنك الدولي الخصم اللدود لمصر عبد الناصر بأنها لم تحققها الولايات المتحدة الأمريكية في سنوات العمران ..ويكفي إنه في عام النكسة 1967م وصل معدل النمو الاقتصادي في مصر 7.8 % وهو معدل كبير مقارنة بحجم التحديات ولم يتحقق في أي بلد مستقر هذا المعدل وحتى اليوم ..
لكن المشكلة لم تكن في التجربة ولا في الأهداف والمبادئ التي رفعتها الثورة والقائد بل كانت المشكلة في الجهاز البيروقراطي من ناحية برموزه الإنتهازية المتسلقة والمنافقة وفي حجم المؤامرة التي أستهدفت التجربة والتحولات والقائد ..إذ لم تحظى تجربة سياسية وفكرية بهذا الكم الهائل من الأعداء والمتربصين الراغبين في وآدها كما هو الحال مع التجربة الناصرية ومع قائدها ..تجربة تجند لوادها الكثيرون ..البعض خاصمها خشية من أهدافها وأنحيازها للجماهير وإيمانها بحق الجماهير بالحرية والعدالة والوحدة والكرامة ..والبعض تصدى للتجربة وقائدها خشية من نفوذهما وسيطرتهما على المسرح القومي وتهميش عشاق الزعامة والإرتهان..وهناك من تصدى للتجربة والقائد بدافع الغيرة من شعبيتهما وإنجراف الجماهير خلفهما..تعددت الدوافع لكن يبقى الهدف واحد وهو التخلص من التجربة الثورية الوحيدة التي جاءت تلبية لطموحات الجماهير حاملة لتطلعاتهما ساعية إلى إيجاد مجتمع عربي متسلح بكل قيم العلم والمعرفة تسوده العدالة والكرامة الإنسانية ..
فتأمرت الأنظمة الرجعية على التجربة خوفا على عروشها وتسلطها..وتأمرت القوى السياسية والحزبية خوفا على نفوذها ومستقبلها ..ومن جماعة الإخوان ومكونات الإسلام السياسي إلى جماعة اليسار بكل مدارسهم الكل خاض في معترك المؤامرة ضد عبد الناصر وتجربته غيرة منه ورغبة منهم في الدفاع عن وجودهم بل ودخلت محاور عربية في معترك منافسة ناصر وثورته وياليتهم نافسوا بشرف وحققوا إنجازا في منافستهم بل خدموا الاستعمار والصهيونية في كل مواقفهم الغير شريفة من ناصر والثورة وقد زادت حدة المؤامرة بعد قيام الوحدة المصرية _ السورية عام 1958م ..إذ كانت وحدة مصر وسورية هي الإنجاز الأبرز الذي أرعب أعدء الأمة ووجودها وتقدمها فسعوا بكل قوتهم وإمكانياتهم لينسجوا أحقر وأقذر المؤامرات لضرب هذا الإنجاز القومي مستعينين بكل ضعفاء النفوس والمرتزقة والخونة وسخروا لذلك إمكانيات هائلة وأوجدوا ماكينة إعلامية وجندوا كل أبواق العمالة والخيانة والسمسرة والإرتزاق ومولت أنظمة العهر الخليجي كل هذه التحركات التي خططت لها قوى الاستعمار والصهيونية وجندت لها طوابيرها فكانت الثورة والقائد في مواجهة كل هولاء إلى جانب مواجهة العدو التاريخي للأمة وهو العدو الصهيوني ..
في ذات الوقت الذي كانت فيه الثورة والقائد يخوضون معترك ( التجربة والخطا) في سبيل تجذير وتكريس قيم ومبادئ وأخلاقيات سياسية وفكرية تعبر عن حاجة الإنسان العربي وتحرس تطلعاته وتحقق أحلامه في الحرية والاشتراكية والوحدة والتي أعتمدت لتكون هي أهداف النضال العربي وحلم مواطني الأمة من المحيط إلى الخليج ..
وقد وضعت الناصرية أسس ومقومات التطور الحضاري للأمة بعد أن شخصت وبدقة متناهية أسباب وعوامل التخلف التي فرضت على الأمة وأجبرتها على العيش في دائرة الإستلاب والأرتهان ومن أهم عوامل التخلف كانت الهيمنه الاستعمارية على إرادة الأمة وخياراتها وتحالف القوى الإقطاعية مع المستعمرين وإرتهانهم لهذا أو ذاك المستعمر وكذا فساد الحياة السياسية والحزبية المخادعة لإمآل وتطلعات الجماهير والمناهضة لتقدمها الاجتماعي ..
يتبع .. |