ريمان برس - خاص -
في السياق القومي نرى أمتنا من محيطها لخليجها بسمائها ومحيطاتها وبحارها وجزرها وصحاريها تعيش في أتون أزمة مركبة تتصل بالهوية واشكالية الانتماء بعد أن تم شيطنة الهوية القومية لمصلحة الهوية القطرية وبعد أن غداء الحديث عن الوحدة العربية والهوية القومية والمصير المشترك ضربا من الاحلام الطوباوية ؛ ويقابل من يتحدث بهذه المفردات بالكثير من عبارات السخرية أن لم توجه إليه سيلا من التهم من قبل مستعميه أقلها وصفه بصاحب فكر ( خشبي ) وب( القومجي الحالم ) و( الطوباوي ) الذي يعيش خارج اللحظة الزمنية وبعيدا عن متطلباتها ..؟!
ومنذ أوائل الثمانينات من القرن الماضي شاعت وانتشرت ثقافة التنكر لكل ما هو قومي لحساب نمو وتوسع وانتشار ( الثقافة القطرية الانعزالية ) ليصبح كل قطر عربي يقدس ذاته وينقش تاريخه القطري باسم الوطنية والعمل الوطني والاعتزاز بكل ما هو وطني وتسفيه كل ما هو قومي أو متعلق بالوجود القومي بما في ذلك حقائق التاريخ والجغرافيا والدين واللغة والمصير المشترك ؛ كل هذه الحقائق الوجودية للأمة تم التنكر لها من أجل بعث وتكريس القيم والنوازع القطرية تحت ذريعة الانتصار للهوية الوطنية ؛ وفيما كانت أوروبا تتوحد وهي المكونة من عدة قوميات وهويات وحضارات وعرقيات ؛ كان النظام العربي يكرس نوازعه القطرية باسم تقديس الخصوصية الوطنية ؛ وفي سبيل ومن أجل هذه الغاية ذهب النظام القطري حد التآمر على بعضه وقطع جسور المودة فيما بين اقطار الأمة ومدها مع أعداء الأمة وأعداء وجودها الحضاري .
لم تمر سوى ثلاثة عقود على بدء تكريس الهوية القطرية وقيم الدولة الوطنية حتى شاهدنا كيف انقلبت الأوضاع والمعادلات وتحولت الدولة الوطنية إلى وباء بعد أن وجدا من شجعها على حساب القيم القومية أن خطر الدولة الوطنية يشكل عائقا أمام مصالحه فكان أن بداء العمل على تفتيت وتمزيق الدولة الوطنية والتآمر عليها عبر سلسلة من المفاهيم والشعارات والبرامج مستخدما لتحقيق أهداف أدوات محلية ومكونات متعددة الأنشطة والمسميات والأهداف وبتمويل من المراكز الاستعمارية العاملة في كنف الأجهزة الاستخبارية للدول الاستعمارية ؛ ناهيكم عن دور ( المانحين ) وروشتات ونصائح ( البنك والصندوق الدوليين )..؟!!
ولم يتوقف الأمر على الأنظمة الفقيرة وحسب بل طالت هذه المؤامرات الأنظمة النفطية المترفة بالثراء التي تحولت إلى مجرد ( بازارات مفتوحة ) للمنتجات الاستعمارية ؛ فوجدنا أنفسنا أمام أنظمة عربية ثرية ولكنها تفتقر لسيادتها وكرامتها على أرضها ؛ وأخرى فقيرة دفعها الفقر لأن تساوم على السيادة والكرامة مقابل إشباع بعضا من ( جوعها ) ..؟!!
ليفتقد النظام القطري العربي علاقته مع بعضه بل افتقدت الأنظمة العربية مودتها وجسور المحبة والتواصل مع شعوبها ؛ فبدت على أثر ذلك نوازع التمزق المجتمعي وثقافة التنافر بين الأنظمة والشعوب من ناحية وبين الأنظمة ببعضها ؛ وفيما ذهبت الأنظمة وبكل سفور تعزز علاقتها مع الأخر الحضاري وهو _ العدو المتربص بوجودها بصورة كلية وجزئية _ وتخوض معترك التخابر والتآمر على بعضها ؛ راحت الشعوب بالمقابل وعبر بعض مكوناتها تعمل ضد أنظمتها وتمارس أدوار شبه استخبارية ضد أنظمتها وترسلها لذات الجهات الحاضنة والممولة والداعمة لها وهي ذات الجهات الدولية التي تمسك بخيوط اللعبة بالأنظمة مطبقة على الأنظمة فيما بينها وفيما بينها وبين المكونات المدنية سياسة ( الاحتوى المزدوج ) وتعني ضرب الأنظمة ببعضها وضرب كل نظام بمواطنيه ورعيته ..؟!!
لذا نرى اليوم أنظمة عربية تتأمر على بعضها بل وتخوض حروبا وتمول أزمات ضد بعضها ولصالح الاخر الحضاري _ العدو لوجودها _ ومنظمات وأحزاب وفعاليات ومسميات اجتماعية تنشط في كل ساحة عربية ضد أنظمتها تحت شعارات عدة تبدأ بحرية الراي والتعبير والديمقراطية والحرية والتعددية الحزبية وحقوق الأنسان إلى الشفافية والحكم الرشيد والعدالة الانتقالية ومكافحة الفساد ؛ وصولا إلى كفالة حقوق الأقليات العرقية والأثنية وحرية التدين والانتماء الديني وليس اخر هذا الموال هو أهمية وضرورة ( التطبيع مع العدو الصهيوني ) ؛ وقد جلب ما اطلق عليه ب ( ثورات الربيع العربي ) للأمة مآسي مضاعفة تفوق ألف مرة مآسيها قبل تدشين ( حفلة أو محفل الربيع العربي ) الذي كان في الواقع ( محفلا عبريا ) بامتياز ..؟!!
ومن العراق إلى سورية واليمن وليبيا والسودان والصومال وتونس وموريتانيا وبقية دول المغرب العربي إلى الخليج الذي استنزفت ثرواته السيادية خلال عقد من الزمن فقط بما يكفي لتعمير الوطن العربي من محيطه لخليجه بصحاريه وبحاره وجزره ومدنه مائة مرة ؛ بل أن ما انفقته دول الخليج وحدها على تدمير العراق وسورية واليمن لو انفق لتنمية وتعمير هذه الدول لجعلت شعوب هذه الدول ينصبون في كل بيت تماثيل ملوك وأمراء الدول الخليجية تماما كما كان عرب الجاهلية ينصبون تماثيل ( اللات والعزة وهبل في بيوتهم ) ..!!
لكنهم للأسف لم يفعلوا ذلك بل عملوا على توظيف ثرواتهم لتدمير شعوب الأمة ودفعهم للاقتتال فيما بينهم ..أن واقع حال الأمة اليوم لا يختلف عن الواقع القطري وكما تنهش بالواقع القطري أو الوطني ( تماسيح الفساد والخراب والأزمات ) ينهش النظام العربي الرسمي ببعضه ويتآمر بكل شفافية ووقاحة على بعضه ؛ وهذا يتعارض مع ابسط القيم والمفاهيم والمبادئ السياسية التي تحتم على هذه الأنظمة إيجاد جسور التواصل والاتصال فيما بينها من أجل أمنها الوطني وسلامة نسيجها الاجتماعي ؛ لأن المصلحة الوطنية للأنظمة العربية تبدا في تحصين ذاتها عبر إيجاد جسور التواصل فيما بينها وهي التي تنتمي لجغرافية واحدة وهوية دينية وحضارية واحدة وتحكمها لغة واحدة وتاريخ مشترك وينتظرها مصير مشترك واحد ؛ ويكذب من يقول إذا غرقت ( صنعاء ؛ أو دمشق ؛ أو طرابلس ؛ ) ستسلم ( الرياض ؛ وعمان ؛ وتونس ) من هذا الطوفان يكذب ألف مرة من يقول بهذا ؛ ومن يقول أن التقارب مع ( العدو الصهيوني ) سيحقق له الرفاهية والتقدم والتطور وسيمكنه من كسب ود واشنطن والمنظومة الغربية وهذا سيجعله في مأمن من الازمات الداخلية والهزات الاجتماعية ؛ بل أن ما تعاني منه ( صنعاء ) اليوم ستعاني منه ( الرياض ) غدا ؛ وما تعاني منه ( طرابلس الغرب ) ستعاني منه ( الدوحة ) غدا ؛ وما يجري في ( الخرطوم ) سنراه في ( أبو ظبي ) وهكذا دواليك وعلى قاعدة ( إذا حلقوا لابن عمك بليت ) فلا يتصور أحدا أن ما تشهده بعض العواصم العربية من فوضى بفعل المؤامرة الاستعمارية ؛ قد تنجوا منه عواصم التمويل العربية ؛ التي ستدفع ثمن غبائها السياسي والاستراتيجي ولو بعد حين ..!
لقد نحر النظام العربي كل قيم التواصل ومقومات الاتصال والتكافل والتعاون المشترك فيما بينهم كما سبق لهم ونسفوا كل مقومات وعوامل الأمن القومي العربي ؛ الذي يضاف لقائمة المستحيلات الثلاث المتمثلة في ( العوج والعنقاء والخل الوفي ورابعهم الامن القومي العربي ) الذي لم يعد له وجود حقيقي أو تأثير أو فعل إلا إنه رفع مؤخرا لتبرير العدوان علي الشعب اليمني الذي يقول البعض عنه إنه جاء حفاظا على ( الأمن القومي العربي ) مستغلين علاقة معنوية مزعومة بين صنعاء وطهران وهي علاقة لم نراها بقدر ما نسمع عنها في أدبيات البعض وخطاباتهم مع أني وعلى ضوء الأزمة الراهنة التي تعيشها بلادي أتمني أن يكون لنا علاقة وشراكة استراتيجية مع طهران كتلك القائمة بين طهران ودول الخليج وفي المقدمة منها السعودية والامارات وهما الدولتان اللتان تخوضان حربا ضروسا ضد الشعب اليمني بذريعة محاربة إيران وإيقاف المد الإيراني ..؟!!
لقد دمرت بغداد بتمويل خليجي ودمرت ليبيا وسورية واليمن وكادت مصر تلحق بهم وها هي السودان تتجه إلى الخراب وفي كل أزمة وكارثة نجد المال الخليجي لصيق لمخططات المحاور الاستعمارية _ الصهيونية ..؟!
إذا أي أمة يمكن الحديث عنها ؟ بعد أن بلغت مرحلة من انحطاط حضاري وتاريخي ووجودي لا ينفع معه لا ( دين ؛ ولا ثقافة ؛ ولا لغة ؛ ولا تاريخ ؛ ولا جغرافية ؛ ولا مصير ) بل لم يعد هناك ثمة عامل مشترك يجمع العرب وكل ما يقال عبر الإعلام مجرد حملات تظليل من قبل هذه الأنظمة التي لا ترغب في قطع ( شعرة معاوية ) كما يقال_ ظاهريا _ بينما من وراء الستار قد قطعت الأرحام وكل القيم الجامعة بما فيها ( دين الله ) ..!!
الأن رموز النظام العربي يتسابقون فيما بينهم للعق ( أحذية الصهاينة ) وخطب ودهم وكسب رضاهم مع أن هؤلاء الصهاينة لم يرتضوا بأوامر وتعاليم الله ورسله فاستحقوا لعناته وغضبه فأغرق بعضهم وخسف ببعضهم قرودا وخنازير وترك بعضهم ليختبر بهم إيمان المؤمنين وإلى وقت معلوم ..!!
وقبل الختام سأعرج إلى ( مصر ) التي تركت بتفاهم لبنا ذاتها اقتصاديا وتنمويا واجتماعيا وبشروط مسبقة وحدود لا يمكن لمصر تجاوزها بدءا من أهمية تقديس وتمسك نظامها ( بكمب ديفيد ومعاهدة السلام ) والترويج لمعاهدة سلام جديدة مع العدو الصهيوني ومباركة أي تقارب عربي _ صهيوني ولكن من تحت الستار أي أن مصر تحولت من موقع الملتزم ب( السلام مع الصهاينة ) إلى موقع ( الدافع والمشجع لمزيدا من اتفاقيات السلام ) بين العرب وعدوهم التاريخي ولم تكن اتفاقية ( إبراهيم ) بين العدو وبعض الأنظمة الخليجية بعيدا عن دور مصر التي تعد عرابة هذا الاتفاق والمقابل أموال استثمارية تتدفق من الخليج لمصر ورضاء أمريكي _ صهيوني وتفاهمات دولية منحت مصر الشرعية في احداث توازن سياسي واستراتيجي في المنطقة بعد فشل مشروع ( الربيع العربي ومشروع الشرق الأوسط الجديد ؛ والكبير ) بحسب المواصفات الأمريكية _ الصهيونية ..؟!!
باختصار لم تعد هناك هوية عربية يمكن الرهان عليها بل هناك هويات متعددة عرقية ودينية ومذهبية وطائفية تخيم على سماء الوطن العربي رغم البهرجة الإعلامية ومحاولات بعض الأثرياء تسجيل حضورهم على المسارات الحضارية بكل جوانبها إلا أن كل ذلك يعيدنا لتفسير الروائي العربي الراحل عبد الرحمن منيف في ملحمته الرائعة _ مدن الملح العربية _ والله المستعان . |