ريمان برس - خاص - عندما شاهدت كما شاهد العالم أجمع على شاشات التلفزيون ما يتعرض له المواطنون اليمنيون من تنكيل وإهانات وإبعاد من الأراضي اليمنية التي احتلها الحكام السعوديون، وفي مقدمتها مدينة (نجران) اليمنية، رأيت أنه من المناسب تقديم هذه الدراسة التاريخية الموجزة للقراء( ).
مقدمـــة :
كان حي الإمام الشهيد (يحيى حميد الدين) ملك اليمن يتحين الفرصة الملائمة لبسط نفوذ الدولة اليمنية على منطقة (نجران) التي ظلت لفترة من الزمن خارج السيطرة اليمنية لأسباب طارءة.
وقد منح وجود (الأدارسة) في (المملكة اليمنية) الإمام (يحيى) قوة إضافية، ذلك أن هؤلاء عملوا على تشجيع وتحريض (الإمام يحيى) على اتخاذ موقف أكثر فعالية وقوة ضد (ابن سعود) ملك الحجاز، مؤكدين له أن (عسيراً) سوف تستقبل جيش التحرير والتوحيد اليمني بالترحاب والتحية، وأن أنصارهم هناك سوف يؤيدونه، ويعلنون تضامنهم معه.
وقد وجد هذا التحريض صداه الإيجابي لدى الإمام للمضي قُدماً في اتجاه تحقيق شعار أن تكون (اليمن لليمنيين).
ولكي يتمكن الحاكم الوهابي السعودي من صرف الإمام (يحيى حميد الدين) عن مشاريعه المشروعة هذه التي لم تكن تخفى على (ابن سعود) وحلفائه البريطانيين، فإن (صاحب نجد الوهابي) - مسنوداً بالسلطات الإنجليزية الاستعمارية في (عدن) اليمنية - بدأ في تدبير مؤامرات داخل المملكة اليمنية نفسها، سواء في المنطقة السهلية أو الجبلية، وأوعز إلى محاربين قبليين من (نجران) بأن يلتحقوا بالتمرد الذي بدأ في قبيلتهم الأم (بكيل) غير أنه أتيح للجيش الذي كان تحت إمرة ولي العهد آنذاك (أحمد حميد الدين) نجل الإمام (يحيى)، والذي وصفه كتاب التاريخ الغربيون بأنه محارب المملكة اليمنية، والمدافع القوي عن عرشها، أتيح لهذا الجيش أن يقضي على هذا التمرد الخطير، قبل أن يشتد ويستفحل، وأن يدحر في شهر القعدة 1351هـ (مارس 1933م) المحاربين القبليين (الياميين) القادمين من (نجران) والمهاجمين من منطقة (الفرع) في أقصى شمال (المملكة اليمنية)، وأن يحول على هذا النحو السريع والعاصف دون نشوب تمردات أخرى في مناطق أخرى من البلاد.
احتجاجات الملك اليمني :
لم يترك الإمام (يحيى حميد الدين) الفرصة تمر دون تقديم احتجاجه إلى (ابن سعود) في شكل برقيتين، يقول له فيهما بأن حَاكِمه في منطقة (أبها) دأب على استقبال الوفود من (نجران)، وأن - (ابن مساعد) - يحضر نفسه من (عسير السراة) للانقضاض على (نجران)، بغية احتلالها.
وفي برقيتين جوابيتين شديدتي الوضوح حاول (الملك السعودي الوهابي) تهدئة وطمأنة ملك اليمن الإمام (يحيى حميد الدين) بأنه لا خطر قط من جانب هذه الوفود (اليامية)، وأن (نجران) بالذات لا يمكن أن تكون لا من قبل ولا من بعد منطقة نزاع بين الفريقين، وقد فسر الإمام هذه الإجابات الواضحة والجلية لصالحه، وعزم على استثمارها، واستباق سلطان (نجد) نحو وضع اليد على (نجران)، استعادة لها من قبضة حكامها الطارئين وتحقيقاً لوحدة اليمن.
نبذة عن (نجران) وقبائلها :
باستثناء بعض الواحات، فقد صارت (نجران) معروفة بأنها منطقة صحراوية، سكانها رحالة وشبه البدو، وكانوا قبل ظهور النفط واستثماره في أراضيها يحصلون على وسائل معيشتهم عن طريق الغارات، والغزوات التي كانوا يشنونها ضد القبائل المجاورة، بل وضد (نجد) أيضاً، وبسبب وضعهم الاجتماعي هذا، كانوا مستعدين لبيع قواهم لكل قوة، حيث كانوا يضعون أنفسهم تحت تصرف الذي يدفع أكثر، وكان (الياميون) لهذا السبب أيضاً أشد القبائل اليمنية عسكرية. وإلى هذه البنية الاجتماعية المتميزة نسبياً يمكن إعادة واقع أنهم وقفوا ضد كل المحاولات التي استهدفت إخضاعهم لحكومة مركزية، وأنهم إلى هذا الوقت كانوا تابعين فقط لزعيمهم الديني (الإسماعيلي)، المعروف بـ (الداعي المكرمي) ولمشائخ قبائلهم.
ولأن السكان (الياميين) كانوا ينتمون إلى (الطائفة الإسماعيلية) المنتشرة في أكثر من بلد إسلامي، وتركزوا في منطقة يمنية ذات ظروف جغرافية ودفاعية ملائمة، فإنه قد أتيح لهم، من خلال هذا التماسك القوي الذي عبر عنه انتماؤهم الطائفي الموحد، المحافظة على استقلالهم الذاتي منذ قيام (الدولة الزيدية القاسمية المركزية) التي وحدت اليمن ثم انهارت مع نهاية القرن الثامن عشر.
محـــاولات فاشلـــة :
فشلت كل المحاولات التي قامت بها الدولة السعودية الأولى، وقام بها الملك الوهابي (ابن سعود) بعد احتلال (عسير السراة) من أجل الاستيلاء على (نجران)، كذلك تم دحر كل الحملات التي جردها الملك الوهابي ضد الياميين منذ 1920 - 1932م( ).
أدرك الملك (عبدالعزيز) أن الإمام (يحيى حميد الدين) قد أعد نفسه من أجل السيطرة على (نجران) التي طالما تعلقت بها مطامح الملك الوهابي التوسعية، خاصة بعد أن رأى إمام اليمن وهو يدفع (الأدارسة) إلى المبادرة بإثارة أهالي (عسير) للقيام بانتفاضة جديدة. ولأن الملك السعودي لم يكن قد استعد بما فيه الكفاية للحرب ضد (ملك اليمن)، فقد آثر التفاوض معه، بغية كسب بعض الوقت، وللحيلولة الإمام وبين الإقدام على تنفيذ مشاريعه في (نجران) و (عسير) باسم توحيد اليمن. ولهذا الغرض أرسل الملك السعودي وفداً إلى (صنعاء) في مايو 1933م. غير أن الإمام (يحيى) أراد وضع (ابن سعود) أمام الأمر الواقع، قبل أن يكون وفده قد وصل إلى (صنعاء)، ولذلك فإن الإمام (يحيى) أعطى الأمر لجيش التحرير والتوحيد اليمني بالزحف على (نجران) في شهر مايو 1933م. وعندما وصل الوفد السعودي إلى الحدود الشمالية للملكة اليمنية قرب (ميدي) كان الجيش اليمني قد بدأ بالفعل عملية الاستيلاء على (نجران)، ورفع راية الوحدة اليمنية عليها.
المفاوضــــات :
لم يرد (ابن سعود) أن يتخذ إجراءً مضاداً، حيث أن وفده كان ما يزال يجري الحوار في صنعاء، وكان من مصلحة الإمام هذه المرة تطويل المفاوضات حتى يستكمل الجيش اليمني عملية الاستيلاء على (نجران)، وكلف مفاوضيه، حي الشهيد القاضي (عبدالله العمري - رئيس وزرائه)( ) و (عبدالكريم مطهر)( )، أن يضطلعا بالأمر، وتوجه هو نفسه إلى منطقة (عمران)، بحجة أنه مريض، وأنه يحتاج إلى أطباء من (مصر) و (العراق).
وفي المفاوضات شدد الجانب اليمني أن (نجران) جزء من اليمن، ولذلك فإنه من الواجب على الجيش اليمني أن يدمجها في (المملكة اليمنية)، تحقيقاً لوحدة اليمن، وأن وجود (الأدارسة) في الوطن اليمني الأم لا يمس (ابن سعود) بأي إساءة، وأنه ينبغي الآن دفع ديات آلاف الحجاج اليمنيين الذين قتلوا غيلة في (عسير السراة) على يد القوات السعودية، التي كانت تقاتل هناك لإخضاع هذا الجزء من اليمن لهيمنة (ابن سعود).
وحشية الحكام الوهابيين وأعرابهم :
قصة الحجاج الذين طالب ملك اليمن بدفع دياتهم ومعاقبة قاتليهم، هي كما يلي:
خلال المعارك الظالمة التي خاضها الحكام السعوديون للاستيلاء على (عسير) اليمنية وضمها إلى المملكة السعودية توجه إلى مكة (3,000) حاج من المنطقة الجبلية للملكة اليمنية، وقد سافروا عبر الطريق الاعتيادي الذي يمر ببلاد (بني شهر)، وعندما بلغوا في حوالي النصف الثاني من أغسطس 1923م (وادي تنومة) الواقع في (بني شهر)، أحاط بهم الفرسان والمشاة السعوديون برئاسة (عبدالعزيز إبراهيم) بحجة أنهم لا بد أن يكونوا نجدة مرسلة من الإمام (يحيى) إلى (شريف مكة)، وقد قُتِل الحجاج اليمنيون من قبل القوات السعودية الوهابية عن بكرة أبيهم، باستثناء (5 أو 6) أفلتوا من نفس المصير، وأخذت أموالهم كغنيمة، ولم يعرف الألم له حدوداً في اليمن، إن هذه الدراما التي تركت أثراً حزيناً ضخماً في اليمن كلها لم تحدث بدون أوامر من (ابن سعود)، وتشجيع الاستعمار البريطاني الذي حبذ احتلال عسير السراة من قبل (ابن سعود)( ).
(نجـــران) يمنيـــة :
في كافة المباحثات شدد الإمام (يحيى) ملك اليمن على تبعية (نجران) لليمن مؤكداً ((أن مسألة (نجران) و (يام) يا حضرة الملك - عافاكم الله - فأنتم تعلمون أنهم جزء من اليمن ما له مفصل، بل هم مصاصة قبائل اليمن))، وهو ما أكده في برقية أخرى من أن رجال (يام) (مصاصة اليمن سابقاً ولاحقاً!).
أرسل الملك الوهابي ثلاث برقيات إلى الملك اليمني طالبه فيها بعقد معاهدة، تثبت بها الحدود، وعلى أساس أن تكون (عسير ونجران) تابعتين للمملكة العربية السعودية، وكان رد الإمام واحداً، وهو الإبقاء على الحالة الراهنة بدون عقد معاهدة، وقال: أما ((ما أفدتم من الحدود فليس المانع عما أشرتم إليه إلا نفورنا من تجزءة اليمن، ومثل هذا المانع قائم منذ عشرين سنة دون إكمال المعاهدة بيننا وبين الحكومة البريطانية، لرغبتها في تقرير الحدود في الأراضي الجنوبية)). وهكذا فشلت المفاوضات التي سجل أثناءها (الإمام يحيى) رفضه القاطع لمطامع (ابن سعود) التوسعية، تجاه الأراضي اليمنية، وتمسكه الصارم بأن (نجران) يمنية وبوحدة اليمن( ).
استعــادة (نجران) :
للقيام باستعادة (نجران) إلى الدولة اليمنية أرسل سيف الإسلام آنذاك (أحمد) نجل الإمام (يحيى حميد الدين) من (بكيل) و (صعدة) قوتين عسكريتين، إحداهما تقدمت في اتجاه الشمال الشرقي بقيادة السيد (إسماعيل بن الحسن المداني)، والأخرى نحو الشمال برئاسة الأمير (الحسن)، أحد إخوة (السيف أحمد). وبعد قتال شرس مع محاربي قبائل (نجران) تم الاستيلاء على الجزء الجنوبي، بما في ذلك (جبل رعام)، ومناطق (زور وادعة)، و (المفجة)، و (الخدن)، و (الحبونة)، مقر (الداعي الإسماعيلي).
وفي شهر جمادى الثاني 1352هـ (أغسطس 1933م) أرسل آمر الحملة سيف الإسلام (آنذاك) (أحمد حميد الدين) من مركزه في (صعدة)، نجدة سريعة إلى (نجران)، وبذلك أتيح لجيش التوحيد اليمني كسر المقاومة العنيدة التي أظهرها (محاربو نجران)، والاستيلاء على منطقة (نجران) كلها، إلى أقصى حدودها الشمالية، بما في ذلك عاصمتها (بدر)، بينما تمكن الداعي (علي محسن) من الفرار إلى (أبها)، حينئذ تقدم القائد الأعلى للفصائل اليمنية سيف الإسلام (أحمد حميد الدين) نحو (نجران)، ودخلها دخول الظافرين، وكان الاستيلاء على (نجران) واحداً من أعظم الإنجازات الوطنية التي حققتها حركة التوحيد اليمنية، وأخطر الضربات التي وجهها جيش التوحيد اليمني ضد مطامع (ابن سعود) التوسعية في (اليمن) عموماً، وفي (نجران) خصوصاً.
وفي نفس الوقت عزز (الأدارسة) حملتهم الدعائية في (عسير تهامة)، بينما كان جيش يمني ثان على أهبة الاستعداد للزحف تجاه (جبال عسير تهامة)، بغية تطويق (عسير السراة) من الناحيتين من الشرق عن طريق (نجران) ومن الغرب عن طريق (جبال ساق الغراب)، وللانطلاق من هناك، وبالتعاون مع الجيش المرابط في تهامة، وفي (ميدي) و (حرض)، صوب (عسير تهامة)، وأخذ الجيش السعودي فيها من كل الأقطار، والإحاطة بمواقعه من كل جانب!
التدخل في شئون (نجران) اليمنية :
عرف الملك السعودي الوهابي مدى الأخطار الداهمة التي تحيق به، وتهدد سلطته في المنطقة اليمنية الشمالية كلها، ومن ثم، مشاريعه الإقليمية والسياسية التوسعية تجاه اليمن عموماً. وبادر على الفور إلى العمل العسكري، وجرد حملة تجاه (نجران) مكون من (10,000) جندي تحت قيادة الأمير (فيصل) - نجل أخيه (سعود)، وبعد ذلك بدأ الالتحام بين جيش الغزو السعودي المدعم من أهالي (نجران)، وبين جيش الوحدة اليمني.
حاول (الإمام يحيى) في إحدى برقياته أن يقنع الملك السعودي بالكف عن التدخل في شئون (نجران)، مؤكداً أن (جرح الأدارسة لم يندمل) وأن (الجرح أنكى للجرح)، مشيراً إلى ضم (ابن سعود) عنوة واقتداراً (إمارة الأدارسة) في (عسير تهامة). معتبراً ذلك الفعل طعنة في الجسم اليمني ما تزال تنـزف ومحذراً من أن محاولة التوسع تجاه (نجران) من شأنها أن توسع الجرح اليمني وتزيده التهاباً.
عوائـــق مذهبيـــة :
كانت هناك مسألة هامة تضعف موقف الإمام (يحيى) متمثلة في تناقضات تاريخية وسياسية ودينية تحكم علاقته بغالبية سكان (نجران) وهي العداوة المستحكمة الناجمة عن صراعات الماضي الدموية بين حكام اليمن بزعامة (الأئمة الزيديين)، وبين (الطائفة الإسماعيلية) برئاسة (الدعاة المكارمة). والمعلوم، تاريخياً، أن الإمام (يحيى) لم يخضع (مكارمة حراز) غرب صنعاء لسلطة الدولة المركزية، بعد وصوله إلى السلطة في صنعاء عام 1918م، إلا بالقوة، الأمر الذي جعل (الطائفة الإسماعيلية) في (نجران) غير مستعدة للتعاطف مع حركة التوحيد اليمنية وتميل إلى الحكم السعودي مفضلة ضم الأرض اليمنية إليه.
لذلك فقد احتج (الياميون) بشدة على استعادة الإمام (يحيى) لمنطقة (نجران) اليمنية، وآثروا الانتقال إلى جانب (ابن سعود) الذي كانت خشيتهم من تهديده لأملاكهم أقل، مما قوّى جانب الجيش السعودي التوسعي، وأضعف جانب الجيش اليمني الرافع لراية تحرير الأرض اليمنية من المحتل السعودي والتوحيد الوطني لليمن.
من هنا وجد (الإمام يحيى) أنه من الأفضل أن يحد من نطاق الاشتباكات، وأصدر أمره إلى ابنه وقائد جيشه في (نجران)، (الحسن بن يحيى حميد الدين)، بالانسحاب من (شمال نجران)، الذي أثار احتلاله مخاوف الملك السعودي كثيراً لأن الاتصال بين (نجد وعسير السراة)، سوف يتأثر بذلك، بشدة، وربما ينقطع تماماً. وهكذا تم إخلاء المواقع الاستراتيجية الهامة مثل (بدر) و (هدادة) و (القرن) و (الخانق) و (الحبونة)، وغيرها( ).
مباحثــات ومعــارك :
طالب الإمام (يحيى) الملك الوهابي (ابن سعود) بإيقاف التحرشات من قبل جيشه والياميين في (شمال نجران)، وحذره من مغبة الاستمرار فيها، وكان رد (ابن سعود) عليه أنه - الإمام - قد غير خطته، وكرر له اقتراحاته بضرورة تثبيت الحدود، على أساس تبعية (عسير ونجران) للملك الوهابي، وتسليم (الأدارسة) إليه. واقترح الإمام (يحيى) من جانبه إرسال وفد للتباحث مجدداً حول هذه النقاط، وأجاب (عبدالعزيز) بأن الملكين أقدر من الوفود على وضع أساس للاتفاق، وبعد عدة برقيات متبادلة قدم (عبدالعزيز) مقترحات جديدة إلى (ابن حميد الدين) تضمنت التالي: ((أن يكون (نجران) بحدوده بلاداً محايدة بيننا وبينكم، لا نملكها ولا تملكونها، وأن لا نتداخل في شئونهم الداخلية، ويظلون كما كانوا عليه في السابق من زمن آبائنا وأجدادنا)). وعند حدوث أي تمرد من أهل (نجران)، يكون التداول بين الحكومتين لتأديب الخارجين، وأن يسلم (الأدارسة) لـ (ابن سعود)، أو ينقلوا إلى (صنعاء)، وأن تخطط الحدود، وتثبت وفق معاهدة خاصة بذلك، تكون (عسير) بمقتضاها تابعة للمملكة العربية السعودية.
ولكن (ابن سعود) حاول في نفس الوقت حل المعضلة عسكرياً، حتى يتمكن من التفاوض مع (إمام صنعاء) من موقع القوة، ويملي شروطه عليه، فترك جيشه المرابط في (وادي نجران) في مواجهة الجيش اليمني المرابط على الجانب الآخر من الوادي يتقدم ويهاجم بمدافعه ورشاشاته الجبهة اليمنية. غير أن هذه العملية باءت بالفشل، وأبرق ملك المملكة اليمنية إلى ملك المملكة العربية السعودية، طالباً منه في لهجة حازمة قوية بأن: ((يمنع رؤساء أجناده عن تجاوز محطاتهم التي هم فيها الآن قبل أن يحدث ما يصعب علينا وعليكم تلافيه - ويخرج الأمر من أيدينا وأيديكم بالدخول في ميدان وكفاح، ودور امتشاق الصفاح ... وليعلم الأخ العزيز أن الأمر عظيم فوق ما يتصوره الخيال منا ومنكم، ولا محذور من التأني، بل المحذور من الاستعجال، والعجلة من الشيطان، وليعلم الأخ أننا لا نريد شيئاً من الشقاق بيننا وبينكم، وأن المكاتبات إلينا من الحجاز وعسير وتهامة للاشتراك ضدكم، ولا نريد ذلك ولا نرضاه ... ونستعين بالله ونستجيره من الدخول في حرب مظلمة الأنحاء)).
وكان رد (ابن سعود) هذه المرة - وقد غدا مستعداً للحرب بما فيه الكفاية - هو توجيه إنذار بأن نشوب الحرب متوقف على حل النقاط الثلاث الآنفة الذكر - أي تحديد الحدود بمعاهدة، وتحييد (نجران)، وإعادة (الأدارسة) إليه أو إبعادهم إلى (صنعاء)، ((فهذه المطالبة الثلاثة لا نريد غيرها، والسلم والحرب متوقف على كلمة تقولونها، إما نعم، وإما لا. وهذا يوضح الموقف ويحل المشكل. وأما ما أشار إليه الأخ من كثرة المكاتبات التي وردت من عسير وتهامة والحجاز، فإن مثل هذه المكاتبات لا نعيرها اهتماماً، لأن لدينا منها الكثير من سائر أنحاء بلادكم، وإنا متكلون على الله، فمن وفى معنا وفينا، ومن غدر بنا، فالله هو الذي عودنا الجميل بنصره لنا على كل من غدر)). هكذا تحدث (ابن سعود) في لهجة الواثق من نفسه ومن قوته( ).
استعادة أجزاء يمنية أخرى :
أمر الإمام (يحيى حميد الدين) (ملك اليمن) جيشه بالزحف على (عسير تهامة) أيضاً، وقد تم طرد الحاميات السعودية من تلك المناطق واحدة بعد أخرى، وسقطت معظم (جبال الحارث)، و (جبال العبادل)، و (فيفا)، و (سفيان)، و (بني )الغازي، و (بني مالك)، خلال شهرين فقط، شعبان ورمضان 1352هـ (نوفمبر وديسمبر 1933م) في يد أتباع (الأدارسة) وجيش صنعاء. وبذلك امتدت سلطة الإمام (يحيى) على ما يدعي بجبال (ساق الغراب)، ابتداءً من (جبال العبادل) على حدود مملكته إلى (جبال الريث) و (بني الغازي) تحت (عقبة أبها) شمالاً. وقد برر القائد الأعلى لجيش شمال اليمن (أحمد حميد الدين) هذه العملية العسكرية الناجحة بقوله: ((لقد صبرنا حقناً للدماء، حتى جاءت حوادث عسير، وكان موقفنا فيها موقف الحياد التام، وفي الوقت نفسه اندلعت ضدنا نيران الدسائس في نجران، وتهامة، والمؤامرات الخطيرة)). وأضاف قائلاً: أن ما ينبغي يكون مفهوماً هو ((أن حدود اليمن معروفة في التاريخ، وحيث وقد تبينت لنا الدسائس والأذية، فأمر ضمها إلى اليمن ضروري)). وبهذا التحالف الوثيق بين (حاكم صنعاء) وبين (الأسرة الإدريسية)، وبين الجيش اليمني وبين المقاومين اليمنيين في (عسير تهامة) اشتد ساعد حركة التوحيد اليمنية وبذلك غدا سهل (عسير تهامة) مهدداً من الجنوب والشرق، ومن أتباع (الأدارسة) أنفسهم في داخلية البلاد، وبنفس الثقة التي تحدث بها السيف (أحمد) عن إمكانية الاستيلاء على (عسير) تحدث أيضاً (عبدالوهاب الإدريسي) أحد قادة هذه الحملة قائلاً: ((القوات الوهابية في ذعر ووجل، وقد عملنا كل مستطاع، فانتزعنا من العدو منطقة الجبال كلها، من (العبادل) إلى (الدرب) تحت (أبها)، وهذه المنطقة هي التي لا تزال حافظة لكيانها في مسألة الاستعداد، وأما أهل تهامة فأرباب الشكيمة منهم معنا، وأما الذين لا يستطيعون موافقة الوهابيين فقدموا أنفسهم إلينا قاطبة ... ولم نشأ أن نزج بهم في ثورة أخرى كبيرة، وليس لدينا لهم العتاد اللازم)). وعندما نستكمل استعدادنا سنوجه ((حملاتنا على تهامة، ونستولي على أبي عريش، وصبيا، نهائياً، والله ولي الصابرين))( ).
تصحيـــح موقـــف :
كانت هذه الخطوة الجريئة المذكورة أعلاه من قبل ملك اليمن الإمام (يحيى حميد الدين) بمثابة محاولة لتصحيح موقفه المغلوط الذي اتخذه إزاء انتفاضة (عسير تهامة) تحت زعامة (الأدارسة)، وكشفت في نفس الوقت عن أن مفاوضاته الدبلوماسية مع (ابن سعود) كانت تخفي إلى حد كبير - نياته الحقيقية، وطموحه المشروع نحو ضم (عسير) مع (نجران) إلى الوطن الأم، وإقامة دولة اليمن الحديثة الموحدة. ومثل هذا الهدف لم يكن على أي حال - خافياً على الملك السعودي، وكان واضحاً له منذ البداية أيضاً أن إمام صنعاء يعد نفسه، وينتظر دائماً اللحظة الملائمة للشروع في تحقيق هذه الغاية وقد قرر الآن مواجهة طموحات الإمام (يحيى) بالقوة العارية، والدخول في صدام تاريخي حاسم مع حركة التوحيد اليمنية، على أمل القضاء عليها نهائياً( ).
الحرب التوسعية الوهابية :
أرسل (ملك الرياض) الوهابي ولي عهده (سعود) على رأس جيش قوي نحو (عسير السراة) اليمنية، للاضطلاع بقيادة الجبهة الشرقية، وكلف نجله الثاني (فيصل) بالتقدم صوب (عسير تهامة) اليمنية مع جيش آخر لقيادة الجبهة الغربية. وبدأ جيشه الثالث في (نجران) اليمنية الذي كان تحت إمرة (فيصل ابن سعد) في شن الهجوم على الجيش اليمني.
لم يتوقف الملك السعودي، بعد ذلك، عن الحشد والتعبئة والتحضير للحرب، وقد بلغ عدد المحاربين الذين جمعهم، ودفع بهم إلى (جبهة نجران) و (جبهة عسير) (45,000) رجل.
وخلال مؤتمر (أبها) في 2 ذي القعدة 1352هـ (16/2/1934م). كان واضحاً أن الملك الوهابي السعودي قد غدا جاهزاً تماماً للمضي قدماً في اتجاه تحقيق مطامعه التوسعية الإقليمية والسياسية، ليس في (نجران) و (عسير) اليمنيتين فحسب، وإنما في اليمن كلها أيضاً، وذلك بإعلان الحرب. ومن موقع قوة طالب وفده بتخطيط الحدود طبقاً لمعاهدة (عرو). وذلك كان يعني أن على (ابن حميد الدين) أن يسحب جيشه من المناطق التي استولى عليها في جبال (عسير تهامة)، على أن تبقى (نجران) منطقة محايدة. ولكن الجانب اليمني كان مصراً على أن اليمن كلاً واحداً غير قابل للتجزءة، حتى ولو خضعت بعض أطرافه أحياناً لقوى الغزو الخارجية حيث ورد في إحدى الوثائق:
((يجب أن تحافظ (معاهدة الصلح) على الوضع القائم، دون حاجة إلى تعيين الحدود، ذلك أن الجانبين (جسم واحد لا ينقسم) وطبقاً لذلك يجوز لابن سعود أن يحتل بلاد عسير، باستثناء جبال عسير تهامة الواقعة بالفعل تحت سيطرة الجيش اليمني، أما نجران فيجب أن تتبع المملكة المتوكلية اليمنية تبعة تامة)).
وفي 22 مارس 1934م أقدم الملك السعودي الوهابي على تنفيذ مشروعه الحربي - السياسي التوسعي إزاء اليمن كلها، حيث أعلن الحرب على اليمن. وقد بررت (الرياض) هذه الخطوة - كما جاء في الكتاب (الأخضر السعودي) الذي نشر أثناء الحرب، وسجل مراحل الأزمة بين البلدين منذ نشوئها إلى لحظة اندلاع الحرب من وجهة نظر سعودية - بررتها بالقول بأن ذلك يعود إلى إقدام ((الأمير أحمد (ابن الإمام يحيى) وملك اليمن فيما بعد حتى وفاته رحمه الله عام 1962م، على أمر فيه نقض صريح للعهود، واعتداء عظيم على الكرامة، وعلى البلاد، وذلك بإحداث الفساد في بلادنا، وبين رعايانا، ثم بتقدم جنوده وأصحابه لاحتلال الجبال المعروفة باسم (جبال بني عبدالله)، و (فيفاء)، و (بني مالك).)). وكما عبر (ابن سعود) فإنه بأخذ جبال (عسير تهامة) من قبل الجيش اليمني ومشايعيه في المنطقة تغير الموقف، فقد ((صار في الفخ أكبر من العصفور، وهي اعتداؤهم على الجبال)).
وفي بيان إعلان الحرب الذي بعثه الملك السعودي إلى ملك اليمن في شكل برقية وضع شروطاً محددة لإيقافها تتعلق بإخلاء جبال (عسير تهامة) من الجيش اليمني، وتسليم رهائنها، وتحديد الحدود وفق معاهدة، وإبعاد (الأدارسة)، وتحييد (نجران) أو تقسيمها بين الجانبين، بحيث يكون شمالها تابعاً للسعودية، وجنوبها تابعاً لليمن.
وقد تم إيضاح ذلك في البند (ثالثاً) من البرقية المشار إليها (ثالثاً: المساواة بنجران).
إلا (نجران) اليمنية!
لم يرفض الإمام (يحيى) ملك اليمن شروط الملك السعودي التي تضمنها إعلان الحرب هذا، حيث قبلها مجتمعة باستثناء (نجران) التي أصر الإمام (يحيى) على التمسك بها كأرض يمنية لا يمكن التفريط بها.
لم يتراجع (ابن سعود) قيد أنملة عما حدده في بيان إعلان الحرب رغم القبول بمعظم شروطه عدا (نجران) التي أصر الإمام اليمني على أنها يمنية، بل أضاف الملك الوهابي شروطاً تعسفية أخرى لتبرير استمرار الحرب ضد اليمن وتحقيق أطماعه التوسعية فيها.
ومما جاء في برقية رده على (الإمام يحيى):
((طلبنا منكم الإنصاف في (نجران)، واقترحنا إما أن يكون محايداً بيننا وبينكم، أو أن يكون ما بجنوبه من البلد لكم، وما بشماله من البلدان لنا مثل (بدر)، و (هدادة)، و (حبونة)، وما بينها. أي في حالة ما إذا (كنتم لا توافقون على حياده) فإن الاقتراح البديل لذلك هو: (أن يكون من تحت أيديكم من أهل (نجران) لكم هم وبلدانهم، ومن كان تحت أيدينا من أهل (نجران) هم وبلادهم لنا).
ولأن (الإمام يحيى) لم يتنازل عن إصراره على أن (نجران) كلها يمنية، ولأن ذلك كان يعني أنه رفض الإنذار الحربي، ورفض تلبية شروط (ابن سعود) كلها التي على أساس حتمية الأخذ بها مجتمعة، أعلن الملك الوهابي، مدعوماً من بعض الدول الاستعمارية وفي مقدمتها (بريطانيا)، الحرب على اليمن واليمنيين. مستعيناً بأسلحة حديثة ومرتزقة كُثر، وكان معظم الأسلحة الفتاكة مقدم من (بريطانيا) العظمى صاحبة النفوذ والحظوة في (الرياض)( ).
من هذه الوقائع يتضح أن الحرب التي أعلنها الحاكم الوهابي على اليمن لم تكن فقط بسبب النـزاع على (عسير) و (نجران) بينه وبين (الإمام يحيى حميد الدين)، وإنما كانت بالدرجة الأولى حرباً توسعية، شنت بدعم من الاستعمار (البريطاني)، لهدف أوسع بكثير من مجرد إلحاق (عسير) و (نجران) بالمملكة السعودية، لقد كان هدفها البعيد هو احتلال أراضي المملكة اليمنية كلها، وإلحاقها إن أمكن بالمملكة العربية السعودية!.
وهو ما استطاع الحكام السعوديون تحقيقه منذ انقلاب 26/9/1962م حتى الآن.
على أن أخطر ما ارتبط بالسياسة التوسعية السعودية في الأراضي اليمنية هو (الغزو من الداخل)( ).
تحالف بريطانيا والملك السعودي ضد اليمن :
على عكس ما فعل الحاكم الوهابي (ابن سعود) الذي كان يسعى وراء تحقيق سياسة توسع إقليمية هيأ نفسه لها بالمال والسلاح والأعوان الاستعماريين، فإن (الإمام يحيى) الذي كان يدافع عن حقوق وطنية مشروعة ويرفع شعار: ((اليمن لليمنيين)) وشعار: ((الوحدة اليمانية)) لم يعد نفسه الإعداد اللازم والكافي للحفاظ على هذه الحقوق، وللدفاع عنها بقوة السلاح، ولنقل مطالب اليمن العادلة في الوحدة من مائدة المفاوضات العقيمة والمملة إلى ميدان القتال الوطني، ولمواجهة أي حرب يمكن أن يشنها الملك السعودي على اليمن. فقد كان ينقص جيشه كل الأسلحة الحديثة التي كان يمتلكها جيش (الملك السعودي)، وعدا بعض الأسلحة التي استوردها ملك اليمن من (إيطاليا) فإن معظم الأسلحة التي كانت في حوزته لا تعدو أن تكون مدافع وبنادق، مما حصل عليه أتباعه خلال قتالهم ضد الأتراك. وكإجراء عدائي فإن السلطات البريطانية احتجزت في عدن (8,000) بندقية مع ذخيرتها كان الإمام قد اشتراها من الإيطاليين، واستبقتها هناك - كشكل من أشكال المساعدة غير المباشرة لـ (ابن سعود) - حتى نهاية الحرب( ).
معاهــدة الطائــف :
ترتب على الحرب ضد اليمن إذعان ملكها والقبول بتوقيع (معاهدة الطائف) الشهيرة مع الملك السعودي.
وقد (عقدت) (معاهدة الطائف) لمدة (20) عاماً، ويمكن تعديلها أو تجديدها خلال ستة أشهر من انقضائها، وفي حالة عدم حدوث ذلك، تبقى سارية المفعول بعد الستة الأشهر التالية لانقضائها في حالة إبداء أحد الجانبين رغبته في تعديلها، حيث يقول النص: ((وتظل سارية المفعول مدة عشرين سنة قمرية تهامة، ويمكن تجديدها أو تعديلها خلال الستة أشهر التي تسبق تاريخ انتهاء مفعولها، فإن لم تجدد أو تعدل في ذلك التاريخ تظل سارية المفعول إلى ما بعد ستة أشهر من إعلان أحد الفريقين المتعاقدين الفريق الآخر رغبته في التعديل))، غير أن المعاهدة (لم تنص) في موادها على ما إذا كانت تبقى قائمة في حالة عدم إبداء أحد الطرفين رغبته في تمديدها أو تجديدها أو تعديلها قبل انتهاء مدتها، أو خلال الستة أشهر السابقة أو اللاحقة لهذه المدة، ولكنها مع ذلك لم تعتبرها (نهائية ودائمة) إذا لم تجدد أو تمدد، أو تعدل خلال هذا المدى الزمني، ومجرد جعلها سارية المفعول لمدة (20) عاماً، وليس (إلى الأبد) يجعلها معاهدة (وقتية) حتى ولو لم تجدد، أو تمدد، أو تعدل خلال ستة أشهر قبل أو بعد هذه المدة، وقد أراد (يحيى حميد الدين) بقصر المعاهدة على (20) عاماً فقط - كما فعل في معاهدته مع بريطانيا التي جعلها مقصورة على (40) عاماً فحسب - أن يعطي لنفسه الحق في التحرك في الوقت الملائم بالنسبة لدولته نحو إعادة النظر في المعاهدة، وأن يترك الباب مفتوحاً، والأمر معلقاً، ومرهوناً بظروف أخرى لاحقة تكون أكثر مواتاة له وللبلاد، لطرح قضية نجران وعسير من جديد، باسم إعادة تحقيق وحدة اليمن، ولكن بعد إعلان (الوحدة اليمنية) عام 1990م ثم حرب (الوحدة أو الموت) عام 1994م فرطت مراكز القوى الحاكمة بالأراضي اليمنية والسيادة الوطنية وحقوق الشعب اليمني، وحقق الملك السعودي الوهابي ولا يزال من أطماعه التوسعية والهيمنة على اليمن كافة ما لم يكن يحلم به( ).
|