ريمان برس - متابعات - كان ملك الحبشة قد استولى على أرض اليمن، وولى عليها حاكما من الأحباش يقال له أبرهة الأشرم فأقام أبرهة الأشرم يحكم اليمن ويخضعها لسلطانه بقوة جيشه، وكان كثير من أهل اليمن إذا اقترب موسم الحج يخرجون إلى مكة ليحجوا إلى الكعبة المشرفة، ويؤدوا المناسك حسب التقاليد التي تعارف عليها الناس في الجاهلية، ورأى أبرهة خروج قوافل الحجاج فسأل عن ذلك، فقيل له: إن للعرب بيتا يعظمونه ويحجون إليه كل عام، وهو في مكة.
خطرت في ذهن أبرهة فكرة فعزم على تنفيذها، فقد أراد أن يبني كنيسة عظيمة في صنعاء، ويبالغ في بنائها وزخرفتها، ليصرف الناس عن الحج إلى الكعبة، استشار أبرهة بعض المقربين إليه فوافقوه على فكرته، وعلى الفور شرع باستقدام المهندسين والبنائين، وبدأ البناء، حتى كان بناء سامقا قويا مزخرفا جميلا وأطلق عليه أبرهة اسم القليس وقد كلفه هذا البناء مالا كثيرا وكتب أبرهة إلى ملك الحبشة يخبره بما فعل، ثم إن أبرهة أمر جنده وأعوانه أن يدعوا العرب إلى الحج إلى القليس بدلا من عناء السفر إلى الكعبة. لكن العرب حينما سمعوا ذلك استهزأوا بأبرهة وبالقليس فكيف يتركون بيت أبيهم إبراهيم عليه السلام، ليحجوا إلى كنيسة أبرهة؟
وبلغ الأمر أن أحد هؤلاء العرب تسلل إلى القليس خفية فأحدث فيه، ولطخه بالنجاسة، فلما بلغ الخبر أبرهة غضب غضبا شديدا، وأقسم أن يهدم الكعبة.
أصدر أبرهة أوامره إلى الجيش ليتجهز ويستعد للمسير إلى مكة، وأمر قادته أن يجهزوا الفيلة بالإضافة إلى الخيل والجمال، فالفيل حيوان ضخم قوي، يمكن أن يركبه عدد كبير من الجند، ويقاتلوا من فوقه بكفاءة وقوة، وحين تم الاستعداد، تقدم أبرهة وأمر الجند أن يتبعوه، وفي المسير الطويل باتجاه مكة المكرمة، كان جيش أبرهة كلما مر على قبيلة من قبائل العرب أغار عليها فنهب أموالها وأغنامها وإبلها لتكون زادا لهم في طريقهم. وكانت بعض القبائل قد سمعت بمسير أبرهة وجيشه فأخذت حذرها، وفرت من أماكنها، وبعض هذه القبائل عرضوا على أبرهة وجيشه المساعدة والإمداد، رغبة منهم في اتقاء شره.
واصل أبرهة المسير بجيشه حتى بلغ منطقة قريبة من مكة، فأقام فيها، وأرسل فرقة من جيشه فأغارت على الإبل والأغنام التي كانت ترعى بين الشعاب والجبال ورجعت بها غنيمة باردة إلى معسكر الجيش.
علم أهل مكة بالأمر، وتشاوروا فيما بينهم، ماذا يفعلون؟ لكنهم كانوا عاجزين عن مقاومة جيش الأحباش، فهم لا يملكون جيشا منظما وليسوا مدربين التدريب الكافي، كما أن عددهم قليل بالقياس إلى جيش الأحباش، وزاد من خوفهم ما سمعوه عن الفيلة التي تحمل الجنود.
كان العرب يراهنون على شيء واحد هو أن هذه الكعبة بناء مقدس، وله حرمته العظيمة، وأن العناية الإلهية ستتدخل في الوقت المناسب.
أرسل أبرهة إلى زعيم مكة عبدالمطلب بن هاشم يدعوه للقائه، فجاء عبدالمطلب، وكان رجلا مهيبا وقورا، فلما رآه أبرهة أكرمه ونزل عن عرشه حتى استقبله وجلس معه، وبدأ يسأله قائلا: ما حاجتك؟ قال عبدالمطلب: إن جندك أخذوا مني مائتي بعير، وأريد أن تردوها علي، قال أبرهة: قد كنت عظمتك حين دخلت، ولكنني الآن زهدت فيك، قال عبدالمطلب: ولم أيها الملك، قال: لقد أتيت لأهدم هذا البيت الذي هو دينك ودين آبائك وأجدادك، وها أنت لا تكلمني فيه، وتكلمني في مائتي بعير، قال عبدالمطلب: أما الإبل فأنا ربها وصاحبها وللبيت رب يحميه.
أمر أبرهة برد الإبل على عبدالمطلب، فلما استرد إبله رجع إلى مكة، وأمر أهلها أن يتفرقوا في الشعاب والجبال ليأمنوا على أنفسهم مما قد يفعله جيش الأحباش، ثم وقف عبدالمطلب على باب الكعبة وأمسك بحلقته وأخذ يدعو قائلا:
لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدوا محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدالك
وفي الصباح تهيأ أبرهة وجنده ليغيروا على مكة ويهدموا الكعبة، وبينما هم كذلك إذ برك الفيل الأكبر على الأرض، وكانت بقية الفيلة لا تمشي إلا وراءه، فحاول الجند أن ينهضوه ويوجهوه نحو مكة، لكنه أبى، فلما وجهوه نحو اليمن قام يهرول، ثم وجهوه ثانية نحو مكة فبرك على الأرض. وانشغل الجند بهذا الفيل، وفي أثناء ذلك أرسل الله سبحانه عليهم طيرا أبابيل، تأتي مسرعة فتمر من فوقهم، ومعها حجارة صغيرة تلقيها عليهم، فكلما أصابت واحدا منهم هلك وسقط على الأرض ميتا، فلما رأى الجند ذلك ولوا هاربين لا يلوون على شيء، وظلت الطير تلاحقهم حتى قتل كثير منهم، وأصيب أبرهة فالتف حوله بعض الجنود، وحملوه على دابة، والألم يشتد عليه، فلما وصل إلى صنعاء مات.
وهكذا رجع جيش الأحباش خاسئا ذليلا مشردا، بعد أن خسر قائده وأكثر جنده، ورجع أهل مكة إلى كعبتهم يطوفون حولها بإجلال وتعظيم مستشعرين هذه النعمة العظيمة حيث رد الله عنهم كيد هذا العدو الذي أراد هدم كعبتهم واتخذ العرب من ذلك العام تاريخا يؤرخون به، لأن حادثة الفيل من أعظم وأعجب الحوادث التي رآها العرب في حياتهم.
الانباء |